/ صفحة 358/
ظواهر تنفرد بها السورة:
وهذه النتيجة تفسر لنا جملة من الظواهر نجدها في المائدة ولا نكاد نجد شيئاً منها في غيرها من السورة المدنية حتى في أطوال سور القرآن وهي سورة البقرة، ذلك أنها لم تتحدث عن الشرك ولا عن المشركين على النحو الذي ألف في القرآن من محاجتهم وتسفيه أحلامهم وتحقير شركائهم، وأنها لم تعرض في قليل ولا في كثير إلى ماعهد في أكثر السور المدنية التي نزلت قبلها من الحث على القتال والتحريض عليه ورسم خطط النصر والظفر بأعداء الله المشركين كما نراه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة، لأن المسلمين في ذلك الوقت لم يكونوا بحاجة إلى شئ من هذا الحديث فقد انقشعت عن سمائهم سحابة الشرك ورسخت أحكام الله فيما يختص بالجهاد في قلوبهم وأصبحوا لا يخشون أحداً غيره في أحكامه، وصار المشركون في قهر وذلة ويأس ولكن إذا كان المشركون قد انقضى عهدهم فإن للمسلمين أنفسهم شئونها هم في حاجة إلى إكمال التشريع المنظم لها والسياسة التي تديرها، على وجه يضمن لهم دوام السعادة، ويحفظ لهم السيادة. ولهم بعد ذلك صلات خاصة بطوائف من أهل الكتاب يعيشون في ذمتهم وعهدهم ويخالطونهم في حياتهم ومعاملاتهم، ومن ذلك لا يسلم الأمر من الخوض معهم في أحاديث تتصل بدينهم وكتبهم.
ومن هنا يتبين أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في حاجة إلى ما يغنيهم في الجانبين؛ جانب أنفسهم، وجانب علاقتهم بأهل الكتاب. وبذلك دار كل ما تضمنته سورة المائدة ـ كما قلنا ـ على أمرين بارزين: تشريع للمسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وإرشاد لطرق المحاجة والمناقشة وبيان الحق في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب مما يتصل بالعقائد والأحكام. وفي سياق هذه المحاجة تعرض السورة لكثير من مواقف الماضيين من أسلاف أهل الكتاب مع أنبيائهم تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من جهة، وتديداً بهم عن طريق أسلافهم من جهة أُخرى.