/ صفحة 349/
المدعوين، تختلف باختلاف الأفراد في الاستعداد لإدراك الحق وقبوله؛ فمنهم من يبادر بالايمان، ومنهم من يمتد به التردد حتى يرى ما يطمئنه فيطمئن، وليست أمة عيسى في هذا بدعا من الأمم، فقد رأينا مثل ذلك في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ سارع منهم من سارع، وتأخر من تأخر، وصدف منهم من صدف، وما كان تأخر مثل عمر وخالد بالذي يبعدهم عن مرتبة النصرة للحق، والصدق في الإيمان بمحمد ودعوته، وعلى هذا فمن الجائز القريب أن يكون الحواريون ممن تريثوا في بادئ الدعوة وناقشوا فيها، وطلبوا الآيات عليها مرة بعد مرة حتى يطمئنوا ويصلوا إلى الإيمان بعد الشك، فإن دل كلامهم في آية السؤال على شيء من الشك فإنما كان ذلك في مرحلة النظر والاستدلال. وإذا دلت الآيات الأُخرى على إيمانهم فإنما كان بعد انتهاء هذه المرحلة وتقرر الإيمان في نفوسهم) على أنه إذا فرض إيمانهم من أول الأمر وعدم ترددهم في صدق عيسى، فليس في آية السؤال ما يترجح به شكهم على إيمانهم، ذلك أن (استطاع) تأتي أحيانا بمعنى أطاع كما قالوا (استجاب) بمعنى أجاب، ويكون المعنى على هذا (هل يطيعك ربك إن سألته إنزال المائدة، وقد تلتقي مع هذا المعنى قراءة: (هل تستطيع ربك) أي هل تستطيع أن تسأله وأنت على اطمئنان من أنه يستجيب لك، وهذه القراءة مروية عن علي وعائشة وابن عباس وغيرهم، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان القوم أعلم بالله عزوجل من أن يقولوا (هل يستطيع ربُّك) ولكن (هل تستطيع ربك) وعن معاذ بن جبل قال أفرأني النبى صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع ربك)وقال (سمعته مراراً يقرأ بالتاء (هل تستطيع ربك) وإذا كانت هذه القراءة بتلك المكانة في الرواية ومعناها واضح في عدم شكهم فلتحمل عليها القراءة الأُخرى جمعا بين القراءتين، وعملا بالآيات الواضحة في إيمانهم وصدق قدمهم في تصديق عيسى (عليه السلام)، على أن مجرد السؤال لا يدل على المكابرة وعدم الإيمان، وها هو ذا إبراهيم (عليه السلام) يسأل: (رب أرني كيف تحيي الموتى)؟ فيجاب: (أولم تؤمن)؟ فيقول: (بلى، ولكن ليطمئن قلبي) وليس من شك في أن سؤال إبراهيم لم يكن عن شك، وإنما كان طلباً لطمأنينة القلب بعلم المعاينة