/ صفحة 290 /
الله أحرياء أن يتجنبوا أسباب الاختلاف، وهم أحرياء أن يطلبوا لأنفسهم النجاة منه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
انبثق فجر الهداية الاسلاميه يوم بعث الله رسوله محمداً (صلى الله عليه وآله وسلّم) على حين فترة من الرسل، والعالم يومئذ يخوض في ردغة الخيال، عقائدهم زائفة وأحلامهم عازبة، ونزواتهم ثائرة، وشهواتهم غالبة، وهم بين قوى ليس له هم غير الاستعلاء على الناس يعدو عليهم فيظلمهم ويهتضمهم ويسخرهم ما استطاع السبيل إلى ذلك، وضعيف حال به أمد الضعف والاستكانة حتى خنع ولانت قناتِه فلم يعد' له أمل، بل لم يعد يفكر في الانتصاف ممن يسومه الهوان ويستذله ويغتصب حقوقه، ولا يأبه له إلا كما يأبه للحيوان الأعجم، وسواء في كل ذلك الأمم البدائية والأمم الضاربة في الحضارة بسهم، لا فرق بينهم إلا أن يكون الظلم يجري على الأمم البدائية بحكم الغلب والقوة الخالصة، في حين أنه يجري على الأمم المتحضرة باسم القانون والنظام الذي وضع مبادئه السادة المتبوعون على أن يكفل لهم دوام السيادة والاستعلاء.
فالعرب ـ وهم قوم النبي وعشيرته الأدنون ـ كانت يومذاك أمة واغلة في تأليه الأوثان أو اتخاذهم وسائط إلى خالق الكون، ولم تكن لهم قدمة ولا قدم صدق في الرقي الاجتماعي، ولا لهم ضمير يزَعهم عن المغاورة أو التكسب عن طريق النهب وشن الحروب والاعتداء على الحقوق والحرمات، بل لم يكن قانون من خلق أو دين يزجرهم عن وأد البنات والغيلة وما أشبه ذلك من دنئ الخصال، وليس لجماعتهم من حصافة العقل ورقى الإدراك ونور المعرفة ما يحول بينهم وبين إتيان السحرة والكهان والعرافين يلتمسون عندهم أخبار الغيب والفصل في أسباب النزاع والخصومة، ومن كان منهم ذا دين فإنما صار دينه إلى جمل محرفة وعبارات مبدلة ممسوخة مما وضعه لهم رؤساؤهم وأولوا الأمر منهم: فجماعة زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا فاعتقدوا التثليث والحلول والوساطة بين الخالق والمخلوق، وجماعة تخلوا عن عقولهم فوضعوها بين يدي أحبارهم يسخرونها ويأمرونها