/ صفحة 186 /
ولكن، هل نجح ابن سينا، حين جنح إلى هذا الدليل، في بلوغ الهدف الذي عمل له، وهو التوفيق بين الفلسفة والدين? هذا ما نتركه هنا جانباً لأننا لسنا بصدد الحديث عنه في هذا البحث:
على أن الغزالي كان له بالمرصاد، فلم يترك له هذا الإستدلال، وحاول جاهداً أن يبين عدم دلالته على المقصود وهو إثبات وجود الله تعالى. كما كان الأمر كذلك ـ من بعض النواحي ـ بالنسبة لابن رشد من بعد الغزالي؛ إذ رأى أن مسلك ابن سينا في إثبات المبدأ الأول مسلك جدلي لا برهاني، وأنه مع هذا لا يؤدي إلى المطلوب، ولهذا لم يرضه فيلسوف الأندلس عند ما أخذ في الاستدلال على ما جاء به الدين من عقائد.
موقف ابن رشد من ابن سينا، كما أشرنا من قبل، هو الوقوف بجانبه ضد الغزالي إن وافقه في الرأي؛ وإلا، إن رآه قد صرف فلسفة أرسطو أو لم يفهمها حق الفهم فاستحق نقد الغزالي اللاذع له، نجده يعني ببيان أن هذا ليس الحق، أو بعبارة أُخرى ليس فلسفة المعلم الأول، وحينئذ لا يتأخر هو أيضاً عن نقد ابن سينا ولكن برفق غالباً، ثم يعمل على تصحيح استدلاله ليؤدي للمطلوب في المسائل موضوع النزاع، ومن هذه المسائل مسألة وجود الله وإثباته.
في هذه المسألة، التي حاول فيها الغزالي تبيين عجز الفلاسفة عن الإستدلال على وجود الصانع للعالم، يقول صاحب (تهافت الفلاسفة): إن أهل الحق (يريد المتكلمين) رأوا أن العالم حادث، والحادث لابد له من محدث، ما دام الحادث بالضرورة لا يوجد بنفسه، فثبت وجود الصانع للعالم. وأما الفلاسفة فقد رأوا أن العالم قديم، ثم أثبتوا له مع ذلك صانعاً، وهذا المذهب بوضعه متناقض فلا يحتاج فيه إلى إبطال (1).
وهنا نجد ابن رشيد يقف في صف الفلاسفة، ويبين أن مذهبهم مفهوم أكثر
ــــــــــ
(1) تهافت الفلاسفة، طبعة مصر سنة 1319هـ ص33.