/ صفحة 185 /
وقد اضطر الشيخ الرئيس، وهو أرسطي الاتجاه في الطبيعة وما بعد الطبيعة بخاصة، إلى العدول عن رأي المعلم الأول، في الإله وتصوره له، لما رآه من أن القرآن نفسه يصرح بأن الله ليس علة غائية للعالم فحسب، بل هو علة فاعلة صدر عنها العالم ولولاها كان، وأنه لولا عناية الله الخالق به لما بقي موجوداً طرفة عين، وفي هذا يقول القرآن: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده)(1).
إن صاحب النجاة والشفاء حين جعل العالم محتاجاً في وجوده لله، قد ربط بينهما برباط وثيق لا انفصام له، هو رباط ما بين العلة والمعلول. كما أنه قد استخدم فكرة الواجب بذاته والواجب بغيره ـ أي الممكن ـ في التوفيق بين الدين والفلسفة، حتى ظن أنه أرضى كلا من هذين الطرفين.
إنه أرضى الفلسفة إذا استطاع أن يثبت لواجب الوجود كل ما رأى أرسطو إثباته للمحرك الأول من خصائص: الوحدة، البساطة، إنه عقل محصن وفعل محض، الأزلية والأبدية...الخ؛ وإلا لو لم يثبت له هذه الخصائص، لكان معلولاً لغيره، لا واجب الوجود بذاته. بل، قد أفاد من هذه الفكرة في سبيل إثبات ما رأى الدين إثباته لله تعالى من صفات أُخرى، مع بقائه دائماً بسيطاً واحداً من كل وجه إذا أرجع كل هذه الصفات لذاته كما فعل المعتزلة؛ وإلا، لاحتاج إلى علة بها يكون التركيب، وقد ئبت من قبل أنه واجب الوجود بذاته.
كما إنه قد أرضى الدين، حين ربط بين الله والعالم برباط العلة والمعلول، كما ذكرنا من قبل. وإذاً، فالعالم يرجع في وجوده لله ما دام لا وجود له من ذاته؛ فهو وإن كان قديماً كما يقول أرسطو، لقدم علته، ولضرورة التلازم بين العلة والمعلول وجوداً وعدماً، لم يوجد من نفسه، بل هو مخلوق لله ودائم أبدا بدوام الله الأزلي الأيدي.

ــــــــــ
(1) سورة فاطر، مكية: 41.