/ صفحة 184 /
من آحاد السلسلة ممكناً في ذاته، والجملة متعلقة بها، فتكون غير واجبة أيضاً، وتجب بغيرها).
ونتيجة هذا المجهود كله من ابن سينا، في المواضع التي ذكرناها من كتاباته، وفي مواضع أُخرى أيضاً (1)، هي إثبات أن الممكن محتاج للواجب ويجب عنه حتماً، قطعاً للدور والتسلسل اللذين يحيلهما العقل، وبيان أن طريق الخاصة في إثبات وجود الله هو النظر إلى الوجود نفسه في الجملة؛ أي وجود الواجب بذاته، ووجود الممكن بذاته الذي يوجب عقلا أن يكون الوجود الأول علة له (2).
هكذا، رأينا الشيخ الرئيس، لم يرض لنفسه باعتباره فيلسوفاً، مسلك رجال علم الكلام من الاستدلال على وجود الله بآثار هذا الوجود، وهو وجود العالم فإنه، وإن اعتبر صلاحية هذا دليلاً، جعل الاستدلال به حظ العامة أو ضعفاء المتكلمين حسب تعبيره كما عرفنا، هؤلاء المتكلمون الذين يستدلون بالمصنوع على الصانع، أو بالأثر المخلوق على المؤثر الخالق، بينما يجب أن يستدل بالخالق على المخلوق، أو بالصانع على المصنوع، كما هو شأن الفلاسفة وهم خاصة أولي الفكر.
ونعتقد أن الخطب في هذا سهل يسير؛ فكلا الطريقتين (طريق المتكلمين وطريق الفلاسفة) ينتهي إلى أن الحادث لابد له من محدث كما يقول المتكلمون، وإلى أن وجود الممكن ـ ما دام ليس وجوده من ذاته ـ يستدعي حتماً وجود واجب بذاته، تعني واجب الوجود وهو الله تعالى خالق كل شيء وبه يستمد وجوده.
إلا أن ابن سينا ـ كما أشرنا من قبل ـ أعرض عن دليل أرسطو لإثبات المحرك الأول هو الإله، لأنه رآه انتهى به إلى محرك أو إله لا فعل له؛ فلم يصدر العالم عنه، وإن كان يتحرك بدافع الشوق أو المحبة أو العشق نحوه باعتباره غاية له.

ــــــــــ
(1) انظر مثلاً الرسالة العرشية طبعة حيد آباد الدكن سنة 1353هـ، ص2، 3.
(2) هذا المسلك في التدليل على واجب الوجود، بالنظر إلى الوجود نفسه، والتفرقة بين الواجب والممكن، وتجده قبل ابن سينا لدى الفارابي، انظر نصوص الحكم من مجموع فلسفة الفارابي، ص139؛ عيون المسائل ص66 من المجموع نفسه.