/ صفحة 183 /
كل موجود، إذا التفت إلى من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره؛ فإما أن يكون بحيث يحب له الوجود نفسه، أو لا يكون، فإن وجب، فهو الحق بذاته، الواجب وجوده من ذاته، وهو القيوم، وإن لم يجب، لم يجز أن يقال إنه ممتنع بذاته بعد ما فرض موجوداً؛ بل إن قرن به باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته، صار ممتنعاً، أو مثل شرط وجود علته، صار واجباً (أي بغيره طبعاً) وأما إن لم يقترن به شرط، لا حصول علته ولا عدمها، بقي له في ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان، فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع، فكل موجود؛ إما واجب الوجود بذاته، وإما ممكن الوجود بحسب ذاته).
وبعد أن جلى ابن سينا هكذا معنى الواجب بذاته والممكن بذاته نراه يذكر أن (علة الحاجة إلى الواجب هي الإمكان لا الحدوث على ما يتوهمه ضعفاء المتكلمين) (1)، وسبيله في هذا هو أننا لو لم نفرق بين نوعي الوجود: من الذات ومن الغير، بأن جعلناه نوعاً واحداً هو الممكن، انتهى بنا الأمر حتماً إلى ما يحيله العقل؛ يعني إلى تسلسل العلل والمعلولات إلى غير نهاية، أو إلى وقوع الدور فيها. وإذاً، لابد من هذه التفرقة، ولابد من النظر لنفس الوجود الذي للممكن والوجود الذي للموجود منن ذاته، ومن ثم نصل إلى وجود موجود من ذاته يكون علة أولى ـ لا علة وراءها ـ لوجود الممكن بذاته الواجب الوجود من غيره.
وقد عني ابن سينا ببيان هذا الاستدلال في تفصيل في كتابه النجاة (2).
ثم أشار إليه في كتاب آخر إذ يقول (3): (ما حقه في نفسه الإمكان، فليس يصير موجوداً من ذاته؛ فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن، فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته، فوجود كل ممكن الوجود هو من غيره. (لأنه) إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية، فيكون كل واحد
ــــــــــ
(1) هذا عنوان فصل من فصول النجاة ص213، وفيه في تفصيل وجهة نظر واستدلاله.
(2) ص 235
(3) الإشارات والتنبيهات ص40، 41.