/ صفحة 399/
والحكومة الصالحة اذن هي التي تكون وليدة الشعور بالقيمة لفن الحكم. وأمارتها كذلك أن يكون نفعها للكل، لا لطائفة معينة، ولا لأفراد معينيين، تصدر عن عقل جماعي، وتتوخى في حكمها الصالح العام.
... وهكذا بقية قيم الحياة: هي أمور أو معان تقصد، وليست وسائل تستخدم لأهداف أخرى قريبة، والهدف القريب ما كان بعده هدف آخر، فهوليس غاية أخيرة، ولذا لا ينتهى إليه سعى الإنسان، وإذا لم ينته إليه سعى الإنسان فهو وسيلة، قيمته في أن يتوسل به إلى ما بعده، أما المطلوب الذي يقوم لذاته، فهو آخر مطلوب في الوجود، ولذا لا يكون أبداً وسيلة لغيره. هو ما نعبر عنه بـ ((القيم)). ولأن القيم آخر مطلوب في الوجود كانت بعيدة عن أهواء النفس الفردية وشهواتها، وبالتالي كانت منطوية على معنى الخلود في الحياة الانسانية.
هناك اذن قيم في الحياة، وهناك اذن مدركون لهذه القيم وممثلون لها، لكن هناك أيضاً في جانب آخر محترفون بهذه القيم: هناك من ينتسب إلى العلم والمعرفة وهو محترف بها، وهناك من ينتسب إلى الدين وهو محترف به، وهناك من ينتسب إلى الوطنية أو السياسة وهو محترف بالوطنية أو السياسة، وهلم جرا …
ومن يحترف بقيمة ما لا يجعلها طبعاً مطلباً لذاته، ولا يرى لذته في أن يعيش من أجلها وفي سبيلها، بل يتخذها لأهدافه القريبة، يتخذها طريقا لتحقيق مطالب ((الذات)) وهي مطالب الجسد والنفس الأمارة بالسوء، أما مطالب العقل أو الحكمة في الفرد الانساني فلا تعد من مطالب ((ذات)) الفرد، لأن مطلوب العقل مطلوب ((عام)) فهو أقرب إلى مطلوب النفس ((المطئمنة)) أوهو نفس مطلوبها.
ومن يحترف بقيمة من هذه القيم يسخر في واقع الأمر غاية سامية في سبيل غرض قريب (دنىء) ويسعى باسم المعاني الكريمة الخالدة لتحصيل شهوات رخيصة، عاجلة، غير دائمة، ويخدع جماعته، وينافق الكثير من الناس ـ وربما لفترة طويلة ـ لاشباع نفسه بما تهوى وما ترغب فيه، وما تهواه نفسه ليس الا مظاهر الدنيا وزخرفها.