/ صفحة 398/
و الايثار في دائرة المشاركة للغير نوع من أنواع التضحية التي هي أمارة تقويم الدين لذاته، إذ كلما أبعد المتدين في تصرفاته منافعه الفردية، وغاياته الخاصة وضحت صلته بالدين على أنه مؤمن به وبالتالي على أنه معتبر لهذا الدين كفاية في نفسه يطلب ويتمتع به، والمثل الأعلى للمؤمن حينئذ هومن يعبد ربه لا لرجاء نفع شخصي عاجل أو آجل منه، ولا لدفع ضر عاجل أو آجل اعتقد امكان صدوره عنه.
وصاحب الرسالة الدينية ـ من وجهة النظر الانساني ـ أدرك من غير شك قيمة الدين الذاتية، وآمن بأن الدين في نفسه هدف وغاية عليا ليس بعدها غاية أخرى، ولأنه مؤمن بدينه على هذا النحو ينعكس ايمانه به من جديد على تصرفاته: فهو يلغى اعتبار المتع الشخصية، وعلائق القربى في الأسرة، وتراث الماضي مما لم تزل تحرص على بقائه الجماعة، ويتحمل مرارة الخصومة، ويستعذب الآلام النفسية والجسدية، كل ذلك في سبيل التبشير بالدعوة إلى دينه، وصبره على دعوته إلى ما آمن به مظهر القوة في ايمانه. وكلما طال صبره كلما اتضحت قوة ايمانه، واتضح معها تقويمه للدين كهدف لا وسيلة.
3 ـ والوطني هو ذلك الذي اعتبر الوطنية غاية في ذاتها: يسعى إليها ليحصلها ويرى سعادته في تحصيلها، لا ينظر إليها كوسيلة لغاية، بل يجعل ما عداها ـ حتى ذاته ـ وسيلة لها، والوطنية كالعقيدة، والوطني شبيه بالمعتقد، كلاهما مؤمن: هذا بعقيدته وذاك بوطنه، مظهر ايمان كل منهما التضحية، والزعيم في الوطنية يشبه صاحب الرسالة الدينية، تخف في نفسه ـ أو تلغى ـ اعتبارات الحياة بالقياس إلى اعتبار الوطنية، لذته العليا الفناء في وطنه، على نحو ما يراه المتدين الكامل في ((التجرد)).
4 ـ والسياسي ليس هومن يفهم أصول الحكم، ويلم بقواعد السياسة النظرية، بل الذي يرى تدبير شئون الأفراد هدفا ذا قيمة ذاتية، لا وسيلة لغاية قريبة، هو الذي يدرك متعته في أن يرعى أمور الناس بالعدل، ويحقق لهم حياة مطمئنة، ودليل تقويمه السياسة وفن الحكم تقويماً ذاتياً أن تسيطر عليه روح الجماعة، وتهون عليه بالتالي مظاهره الفردية وصلاته الشخصية.