/ صفحة 400/
ثم المقابلة هنا في عملية الاحتراف بالقيم ليست بين باق وزائل، ورفيع ودنىء، وإنّما أيضاً بين قلة وكثرة: قلة تخدع وكثرة تخدع، وقلة تنتفع وكثرة تضار، وقلة تنظر إلى الفجيعة والاضطراب دون اكتراث ـ وهي الساعية إلى الفجيعة والاضطراب ـ وكثرة تفجع وتضطرب.
رجل ينتسب إلى المعرفة فيتجر بها لا هو باحث عن الحقيقة في سعيه إلى المعرفة، ولا هو متصرف طبق الحقيقة لأنه لم يدركها، فمعرفته ظن أو وهم، وسلوكه مصدره هذا الوهم أو ذاك الظن، معرفته أشبه بجهل، وسلوكه أقرب إلى الانحراف عن الجادة، ولكن خطره ليس في جهله وسلوكه الفردي، بل في أن جهله لدى الناس علم، وسلوكه عندهم عنوان على الاستقامة، يتبعون جهله باسم العلم ويقلدونه في السلوك باسم الاخلاق، وهو في حال تبعيتهم له وتقليدهم اياه رائد يصير بهم إلى حيث يهوى ويرغب، ثم الذي يرغب فيه هو باعث علمه أو جهله على حد سواء.
انسان يتصل بالدين فيحترف به لا هو صاحب هداية، ولا حامل دعوة، لأنه يصرف ما لله ولرسوله في سبيل الشيطان، يحرف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم عن مواضعه تبديل في فطرة الله، وخطر المحترف بالدين ليس في التحريف والتبديل، بل في أن من يسمعون لقوله باعتباره رجلا ينتسب للدين يعتقدون أنه بقوله رسم طريق الله، وقلما تزايلهم هذه العقيدة، فان هم عملوا طبق ما اعتقدوا فعملهم في الواقع ليس في سبيل الله، وإذا لم يكن في سبيل الله فليس في صالحهم، لأن ما أراده الله لابد أن يكون لصالح الناس، إذ مفروض في تصور ((الله)) أنه منزه عن الغرض الخاص.
و بقدر ما يبتعد المحترف بالدين في تقويمه الدين لذاته، بقدر ما يسىء إلى أتباعه، وهو عندئذ يسىء اليهم من جهتين: من جهة ابعادهم عن الهداية والحق في ذاته، ومن جهة بقائهم في تعصب على هذا الانحراف بدافع أنهم ذو عقيدة.
قوم يعتقدون باطلا على أنه الحق ثم يدافعون عن هذا الباطل، وانسان