/ صفحة 380/
لم يفتئوا يتبعون أهواءهم ونزعاتهم المادية في أكثر عباداتهم ومعاملاتهم. وكان من ذلك تعاملهم بالربا بدون قيد من عرف ولا تشريع. ولعل مرد هذا (أولا) إلى نزعة الاستكثار وحب الكسب التي تنمو عادة في البيئات التي تزدهر فيها التجارة كما كان هو الحال في مكة (وثانيا) إلى علاقتهم المستمرة باليهود، الذين هم جيرانهم وأبناء عمومتهم.
ولعلكم تعجبون أن تكون مجاورتهم لشعب ذي شريعة سماوية تحرم الربا سببا في تشجيعهم على التعامل به، ولكن الذي يزيل هذا العجب أن نعرف أن هذه الديانة نفسها ـ حسبما ورد في كتب أهلها ـ تبيح الربا كما تحرمه. نعم لقد سقنا آنفا شواهد التحريم من نصوص للتوراة، ولكننا وا أسفاه نجد فيها نصاً آخر يقيد هذا التحريم ويجعله خاصاً بالشعب العبراني. بحيث يسوغ لليهودي أن يأخذ الربا من غير اليهودي))(1) (الاية 20 من الفصل 23 من سفر التثنية). ولما لم يكن في هذا النص تحديد قانوني لقدر الربا المأذون فيه كان ذلك فتحا لباب الاستغلال المالي على مصراعيه بحيث يدخله أشد أنواع الربا فداحة وافراطا.
هكذا كان هذا النص المنسوب للقانون الموسوي سببا فيما نرى ـ أو جزءاً كبيراً من السبب ـ لا في بقاء التعامل بالربا في العالم إلى اليوم فحسب، بل في تهوين أمره على كثير من النفوس واتخاذهم اياه أمراً مشروعاً في بعض الأحوال.
ومهما يكن من أمر فقد اعتاد العرب في عصور الوثنية أن يقترضوا بالربا من اليهود وأن يتقارضوا به فيما بينهم، دون أن يجدوا فيه حرجا ولا غضاضة.
وقد عرفت لهم في ذلك أنواع مختلفة من العقود الربوية. وأكثرها انتشاراً فيما بينهم كانت تبدأ المحاسبة فيه ـ على ما يظهر ـ من السنة الثانية، بمعنى أن الدائن لا يطلب من مدينه شيئا وراء رأس المال إذا وفاه دينه في أجله المعلوم. فان
ـــــــــــ
(1) معروف رد القرآن (في الأيتين 75 و76 من السورة الثالث) على هذه الدعوى التي لا تدع لقانون الفضيلة الا مجالا محدودا للتطبيق، مع أن مبادى الأخلاق يجب أن تكون عالمية لا حدود لها من جنس ولا لون ولا عقيدة ولا اقليم.