/ صفحة 305 /
وتُعنى عناية متصلة بما هو حى، واقعى انسانى: فكان أكبر اهتمام الفيلسوف المصلح هو الاتجاه نحو العمل الإنساني الفعال في الأنظمة التي تتناول الحياة الروحية للمجتمع الإنساني في ذلك الحين.
وبهذه النظرة العقلية العملية معا، عارض الشيخ محمد عبده ما كان سائداً في زمانه عن العلم والمعرفة، فاستطاع بذلك أن يساهم مساهمة قوية في تحرير الفكر الإسلامي من الآلية المدرسية و"الروتين" الضيق، وقد كانا متغلغلين حيننذ في البيئات الأزهرية تغلغلا شديدا.
محمد عبده عصرى جدا، إذا راعينا الاتجاهات العامة لفكره ; وهو شديد القرب منا، من حيث انه يعّبر عن طبيعة يسودها الشعور الأخلاقي، ومن حيث انه يجعل لهذا الشعور السبق على الجدل المدرسى، والمماحكات الكلامية. ونحن إذا استثنينا الغزالى، لانجد عند فيلسوف آخر من فلا سفة الإسلام، ما نجده عند محمد عبده: فبدلا من تلك الثقة المطلقة في قوة العقل التي تتجلى عند ابن سينا، نجد عند الفيلسوف المصرى موقفا انسانيا معتدلا ; فهولا يغترف من معين الجدل والمنطق الا بقدر، لأنه كان يرى أن "روح الرياضة" وحدها لاتكفى، ولاغنى لنا عماكان "بسكال" يسميه "روح الدقة".
على أن الأستاذ الامام لم يكن من المتزمتين، لافي الفلسفة ولا في الدين: فبينا كان ابن سينا يلتزم جانبا واحداً من الحقيقة، يناصره ويذود عنه، كان محمد عبده على نقيضه، قليل الثقة بالمذاهب المغلقة، يريد أن يمد بصره إلى حقيقة أوسع وأشمل.
فيبدوان الامام، بنزعانه الاخلاقية على العموم، كان أقرب إلى الغزالى منه إلى ابن سينا; ولكن الامام، على نقيض الغزالى، لم يكن من المتشككين في قدرة العقل: كان يثق في العقل على شرط أن لايتجاوز حدوده، إذا العقل عنده يقوم بمهمة لايستهان بها في علم الأخلاق، وفي علم الدين نفسه. ولكن محمد عبده، مع ذلك، لم يكن من المسرفين في تقدير قيمة العقل، فلم يتشدد، ولم يتورط فيما تورط فيه غيره، من اثبات وتقدير.