/ صفحة 304 /
ولم يكن محمد عبده عالما حبيس مكتبه، ولا صوفيا منعزلا عن العالم، ولا خيالياً يسبح في أحلامه، بل كان خبيراً بأحوال الناس وشئون الحياة، وكان قادراً دائما على أن ينظر بروح التسامح والود في آراء غيره، مهما يكن بينها وبين آرائه من تباعد واختلاف.
ولم يكن محمد عبده أحد كبار أئمة الإسلام فحسب، بل كان أيضاً فيلسوفا بأسمى معانى الكلمة وأصدقها: إذ وضع لهداية العمل مذهبا خصبا واسعا، واتخذ من أغلب المسائل الفلسفية موقفا لاتعوزه الأصالة ولا الاستقلال، وكان له، فوق هذا، مزاج الفيلسوف الحق الذي يميل، في كل ما يعرض له، إلى التأمل والروية، وينحّى الآراء المألوفة الشائعة، ولايستسلم لحكم الأمر الواقع الذي يذعن له الناس في الشرق أكثر مما ينبغى، بل كان يسلك الطريق الفلسفى الأصيل، ذلك الطريق الا فلاطونى القديم، الذي جدده ديكارت "أبو الفلسفة الحديثة"، ونعنى به النظر إلى الأشياء بعين الروح، واخضاع العالم لشرعة العقل.
ولعل أروع ما تتجلى عليه صورة الأستاذ الامام حين نرى الفيلسوف وعالم الدين يتعاونان في شخصه تعاونا لم يتهيأ لنا من قبل مدى قرون طويلة، وحين يلوح لنا فكره موفقا بين طرفين جرت العادة أن يراهما المفكرون متعارضين، وهما المذهب العقلى، والمذهب العملى: فمن ناحية كان الامام يميل إلى مذهب ديكارت العقلى واتجاهه في توخى الافكار الواضحة المتميزة التي ليس فيها غموض ولا ابهام ; وقد أثبت محمد عبده أن هذا الميل عنده لم يكن مجرد كلام: فسواء في تعاليمه العامة أوفي مراسلاته الخاصة، وسواءاً. في دروسه في علم المنطق، أوفي دروسه في تفسير القرآن، وفي استعانته المتواصلة بروح النقد، وأخيراً في احترامه للعلم الممحص المضبوط، استطاع أن يساهم في امداد المذهب العقلى بحافز جديد لم يكن يتيسر لهذا المذهب في مصر بدون جهوده الموفقة.
ومن ناحية أخرى كشف الأستاذ الامام، فيما أثر عنه من فكر وعمل، عن نزعات انسانية عميقة، تطرح التجريدات المدرسية، والاستنباطات الملتوية،