/ صفحة 156 /
بأعمال وحشية تذهب فيها أرواح الناس، فأية مسألة من مسائل الخلاف في تفسير القرآن لا تجعل خاصة العلماء فقط فرَقا، بل تجعل الشعب الجاهل كذلك شيعا وأحزابا تتشاجر في الطرقات، وقد فهم الحنابلة المتعصبون هذه الغريزة في الجماهير التي لا تحسن النظر، وعرفوا كيف يثيرونها ضد الثائرين من أهل البدع الدينية، ويجعلون من ذلك نزاعا يمس العقيدة، وقد كان من نتيجة حملاتهم، هذه الفتنة التي وقعت في بغداد.
ففي سنة (317 هـ) وقعت فتنة عظيمة ببغداد، وكان سبب ذلك الخلاف في تفسير آية من القرآن في سورة الإسراء: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا) فماذا يعني بالمقام المحمود؟ فأما الحنابلة أصحاب اسحق المروزي شيخهم في هذا الوقت، فقد قالوا في تفسيرها: إن الله سبحانه وتعالى يُجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معه على العرش، وذلك جزاء منه لتهجده، وقالت الطائفة الأخرى ممن تأثر بالمعتزلة إن ذلك كناية ـ وقد اعتبر هذا القول بعدُ عند أهل السنة ـ فليس المراد به مكانا محدودا، ولكنه عبارة عن درجة الشفاعة التي أنعم الله بها على النبي لتهجده، وكان لكلا الحزبين شيعة فوقعت الفتنة، وقبل هذا بقليل ثار على الطبري غوغاء الحنابلة المتعصبون، وذلك عند ما أبدى رأيه في هذه الآية مخالفا لرأي الحنابلة، وقال إن حديث الجلوس على العرش محال. فوثب عليه الحنابلة، ورموه بمحابرهم، وكانت ألوفا فقام بنفسه ودخل داره فرجموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازدك صاحب الشرطة في عشرات الألوف من الجند يمنع عنه العامة.
هكذا يصنع العامة بمن خالفهم في رأي، وعارضهم في فكرة، مهما كان جليل القدر عظيم المنزلة، سليم العقيدة، قوي الإيمان.
ومن أولئك الذي نُكِّل بهم إرضاء للعامة، ابن رشد الحكيم، ضحية الفكر الحر، يقول المقَّرِي في كتابه (نفح الطيب) يصف حالة العلوم في الأندلس:
(وكل العلوم لها عندهم (أي عند أهل الأندلس) حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهر بها خوف العامة، فإنه