/ صفحة 157 /
كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة، أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة إسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، وإن زل في شبهة رجموه بالحجارة، أو أحرقوه قبل أن يصل أمر إلى السلطان أو يقتله السلطان تقرباً إلى العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت. وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن).
نشأ ابن رشد في بيت فقهاء وقضاة، وكانت أسرته من أكبر الأسر واشهرها في الأندلس، وآباؤه من أئمة المذهب المالكي، وكان هو وأبوه وجده قضاة قرطبة، وانفرد هو حيناً. بقضاء أشبيلية.
كل ذلك لم يشفع له عند حاسديه، ولم يحل دون التنكيل به والنفي والإبعاد، وإحراق كتبه ارضاء للعامة.
ويظهر أن أقسى ما أصيب به ابن رشد في محنته: تألب العامة عليه وعلى ولده وتصديهم إلى سبّهما والاعتداء عليهما، والعامة في كل زمان ومكان خصم ثالث يدخل بين الملوك ورجال الدين والفلاسفة. أخبر أبو الحسن عن ابن رشد أنه قال: أعظم ماطراً عليّ في النكبة: أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجداً بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه.
هذا وليس ابن رشد هو أول ضحايا الفكر، ولن يكون آخرهم، فكم من عالم مفكر قد قتل أو سجن، وكم من إمام حر قد نفي أو شرد، ولا ذنب لهذا ولا لذاك إلا سعة الأفق وحرية الرأي، وهي صفة لا تتلاءم مع العقليات العتيقة والأذهان الراكدة.
ولولا هذا الاضطهاد لازدهرت عقول، وسطعت نحوم في سماء الفكر قد خبا نورها، وخمد ضياؤها، بتحريش العامة بأصحابها، وتسليط السواد بالنيل منها، والثورة عليها، ومن أراد مزيداً فليقرأ تاريخ أبي حيان التوحيدي، وابن تيمية، والسهروردي المقتول، وغيرهم ممن أنكرهم عوام عصرهم، ولكنهم أناروا الطريق للأجيال من بعدهم.