/ صفحة 154 /
والتاريخ يحدثنا كثيراً عن النكبات التي نزلت بالمفكرين، والاضطهادات التي صبت على المحققين، والنوازل التي أحرقت بنارها أئمة مجتهدين، ويحدثنا عن الثورات التي كانت تشتعل بين المذاهب، والفتن التي كانت تثار بين الطوائف، والتي لم تكن تحدث لولا إشراك العامة في الحكم على آراء العلماء، وتسليطُ الغوغاء بالإضرار بهم، والشغب عليهم، بل إن كثيراً من رجال الحكم والسياسة لم يسيروا في طريق الاتهام إلا ارضاء للعامة، ولم يسرعوا إلى إلحاق الأذى بالمفكرين والعلماء إلا تزلفا إلى الجهلة، لأن الغلومن شأن هذه الطبقة الساذجة، والتطرف من خلق هذه الفئة الجاهلة، والثورة من سمات هذه الجماعة الجامحة.
يقول (أولدس هكسلي) في كتابه (وسائل والغايات:
(إن الجمهور يحيا حياة عقلية أحط من الحياة العقلية للأفراد، والجمهور لا يستطيع أن يسيطر عي عاطفته كما يستطيع الفرد) ولذلك راجع إلى إن العامة في كل امة أكثر الطبقات عدداً واوفر الجماعات جمهرة وهم لا يستطيعون أن يستقلوا بنظر ولا أن يؤتمنوا على تفكير. لذلك كانوا دائما اتباع المهرج وانصار المشعوذ وجند الشغب تتلعب بهم لإهواء ويستغلهم العتاة، وليس شر على الأمة من الفتن الشعبية التي تستمد قوتها، وتأخذ وقودها من عقل ضعيف وحماسة شديدة، ومغالاة في الدين.
لقد بان الآن سر من أسرار الدين الإسلامي في حثه على الاعتدال في التدين والبعد عن المغالاة، والتزمت في العقيدة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ويقول (هكسلي): (إن التغالي في التدين كثيراً ما يدفع صاحبه إلى الشدة والقسوة، ويتجه به إلى حب الاضطهاد والعنف).
وقد يكون هذا هو سر ما اشتهر عن علماء المسلمين من التسامح، وعرف من قواعد أحكامهم في دينهم من أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة