/ صفحه 393/
عن الشواطيء المصرية، مقابل أن يعيد إليهم الكامل مدينة بيت المقدس، ومعظم البلاد التي أخذها منها صلاح الدين؟ أى مملكة بيت المقدس الصليبية كلها إلا قليلا. غير أن الصليبيين لم يرضوا بهذا العرض السخي، لعدة أسباب اقتصادية عسكرية دينية، وأصروا على رفضه رغم تكراره من جانب الكامل الذي خشى أن تنصرف قوته إلى الصليبيين، فيقترص أقارابه من أبناء صلاح الدين الفرصة لهدم سلطنته في مصر.
وفى أثناء هذه المفاوضات جاء إلى المعسكر الصليبى رجل يناهز الخامسة والعشرين من العمر، بالى الثياب، خالى الوفاض، بادى الأنفاض، لا يملك بلغة، ولا يجد في جرابه مضغة، وليس في مظهره إلا ما يثير سخرية الجاهل. كان هذا الرجل هو. كان هذا الرجل هو القديس فرنسيس، وهو إيطالى من بلدة أسيسى بأقليم أمبريا بأواسط إيطاليا، حيث كان أبوه تاجراً من مياسيرتجار الأقمشة. ونشأ فرنسيس فتى عارما معطاء مما يغدق عليه أبوه من مال، عاشقاً للفروسية وحياة الجندية وما فيهما من مرح وصخب واستهتار، ثم طرأ على حياته ما غيّره تغييراً كليا، إذ اشترك ذات يوم في معركة بين بلدته أسيسى وبلدة پيرو چيا المجاورة، فوقع أسيراً في أيدى الپيروچيين، وبقى في أسره مدة مرض في أثنائها مرضاً برّح به، وأراه الحياة على حقيقتها الغرارة، كما كشف له عن صفات العبقرية في نفسه، وهى الصفات التي وضحت نزواتها في فتوّته، ثم وصحت في رجولته في صورٍ أخرى، من حب خالص، وبساطة متناهية، مع سرعة الاستجابة لالام الغير، وألفى فرنسيس أن العالم الإيطالى المسيحى بحاجة إلى التطهر والتوبة، بعد أن شهد الكنيسة البابوية ـ وهى رأس العالم الأوربى المسيحى كله ـ تجرى وراء مشاريع دنيوية ضخمة، فانطلق على وجهه في إيطاليا عارى القدمين يدعون إلى بساطة المسيحية الأولى، واتخذ الفقر والطاعة والطهر شعائر معدودة، وألف من أتباعه ومريديه جماعة‌ الإخوان الفرنسسكانيين، وهم الذين أطلقف عليهم اسم الإخوان الفقراء، أو الفقراء الرماديين إشارة إلى لون طيالسهم، أو الفقراء من غير صفة ما.