/ صفحه 370/
فالأمة الإسلامية كما ترى تألفت بتأثير المباديء العالية على عقول آحادها، وبفعل الأصول القويمة في نفوسهم، فكانوا قلة ممتازة لم يتفق وجود ما يشبهها في زمن من الأزمان؛ فان قلت يفضل الواحد منهم ألفاً ممن تألفوا تحت تأثير الحاجات المعاشية، والضرورات المادية، لم تك مبالغا، فقد ثبت أنهم بعدهم المحدود تغلبوا على الأمة العربية برمتها في عشر سنين، ثم لما وجهوا وجوههم لنشر دعوتهم في الآفاق سحقوا ـ في أيام معدودة ـ جيوش الأكاسرة والقياصرة التي وجهت لردهم، وأسسوا ـ في عقود من السنين تعد على الأصابع ـ مملكة لا تغرب عنها الشمس، وهذا مالم يحدث له شبيه في العالم الانسانى في مدى تاريخه كله.
فهذا الاجتماع الذي قام على المباديء العالية، والأصول القويمة، وكلَ الله أمره إلى رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) ليحفظ تماسكه، ويصونه تلاحمه، وهو لم يعهد بهذه المهمة الخطيرة إلى رجل لم يبلغ كماله الروحى والعقلي، فيقصر في فهم الحكمة الإلهية من إيحائه الدين العام على الأمة العربية، فيخرجها عن حدود مهمتها، أو يعجز عن حملها على العمل به؛ ولكنه أوحالها إلى روح علوية حاصلة على أكمل ما يمكن أن يتحلى به عامل للوصول إلى هذه الغاية البعيدة. فكان في جميع أوامره ونواهيه يحاول أن يحفظ على الأمة وجودها المادى كأمة عالمية، وجودها المعنوى كأمة مثالية، حتّى أدت هذه الأمانة إلى العالم كله في رقعة من الأرض يختلف اليها جميع سكان الكرة الأرضية، فتعم الدعوة جميعهم على هذا الوجه.
فلم يترك محمد (صلى الله عليه وسلم) مجالا من مجالات النشاط الروحى والعقلى والعملى إلاخصه من توجيهاته بما يناسبه من لفت النظر إليه، وبيان الحكمة منه، ووضْع الحدود له، وذود الآراء المضللة عنه، مما اختصت كتب السنة باستيعابه، وفيها من وجوه حكمته، وأساليب تربيته، ووسائل تقويمه ما يشهد بأن عبقريته قد فاقت أكمل ما عرف عنها عند عظماء رجال العلم والفلسفة.
قلنا قد وكل الخالق جل شأنه إلى رسوله محمد أن يرْبَّ الاجتماع الذي أوجده الإسلام