/ صفحه 369/
فلما تألفت أكثر القبائل إلى أمم، وأمكن اتصال بعضها ببعض، وتعددت الأديان وكان أكثرها قد أدخل عليه ما ليس منه حتّى التحق بالوثنية، واستعدت العقول لقبول دين عام يوحد وجهتها، ويُسَنِّى (1) ألفتها، ويصحح عقائدها؛ اقتضت الحكمته أن يكون ذلك على يد أمة لا عهد لها بين سماوي، ولا كتاب إلهي، ولا مطمع سياسى أو مطمح عالمي، تنشأ إنشاء، وتحلى بجميع الصفات التي تؤهلها لمهمتها العالمية طفرة لا على سنة ناموس الترقي، تأثيراً في النفوس بالعجاز.
بعث الله خاتم رسله محمدا لإحداث هذا الحدث العالمى الفذ، فأنزل عليه الدين في نقائه الأول خالصا من جميع الشوائب البشرية، وأتم على يديه تأليف أمة مثالية في عشر سنين، وهى الأمة التي أعدها الحق لنشر الدين الحق، وإيقاظ العقول من سباتها التقليدى إلى النظر في الوجود، والاستفادة من خصائصها الفطرية للوصول إلى الحقائق الآية نقية من كل ما يلابسها من وساوس الظنون، وأوهام النفوس، لتحدث في العالم ما أراده الخالق له من نقاء العقائد، وصحة الإيمان، وسلامة الصدور.
قلنا فيما تقدم: (و أتم على يديه تأليف أمة مثالية) وأردنا بذلك أنها بنيت على أكمل الأصول وأرقاها، فقد جرت العادة أن الأمم يحدث تأليفها تحت تأثير الحاجات الحيوية، والضرورات المعيشية، ولكن الأمة الإسلامية لم يحصل تأليفها على هذه السنة الطبيعية، فلم يحدث في قبائل العرب من ضرورات الحياة الجتماعية ما يدفها للتألف، ولكنها تألفت بدوافع من حاجات العقول والأرواح كشفها القرآن للنفوس، وبثتها حكمته في العقول، فأجمعت منقادة بسموها على الأخذ بها، والذياد عنها، ونشرها في الآفاق لتخليص البشرية من أوهام علقت بعقولها في أدوار قصورها، فصرفتها عن سعادتها أحقاباً طويلة.

ـــــــــــ
(1) سنّى الأمر تسنية: سهله ويسره.