/ صفحه 314/
ورأى العالم المسيحى يتآمر على هذه الأمة المسلمة، وتتربص بها الدوائر، وكان ذلك عصر التمهيد للحروب الصليبية.
وكانت البلاد الإسلامية قد أصيبت يومئذ من التفرق والتعصب بداء عضال قد تغلغل في صميمها، وأصبح العلماء فيها مولعين بالجدال والمناطرات، وإن يتحدي. بعضهم بعضا في المجالس والمدارس، كانوا يختلفون في الفقه والكلام خلافات حادة، ويحتربون حرباً مضنية، ويجرُّون وراءهم العامة جرّآً، حتى كثرت الفرق وتباينت، وكل فرقة تبغى الغلب والظ فر بخصومها، وتحرض من تستطيع تحريضه من الأمراء والوزراء على مخالفيها، وكان الوزراء والأمراء من جانبهم يؤِّرثون هذه العداوات، ويشجعون تلك الخصومات، انتفاعا بما يجنون منها من شغل العامة، والتحكم في الخاصة.
وأدرك نظام الملك ما في ذلك من الخطر، وفهم من ينطوى عليه هذا التفرق والاختلاف الحادّ من تصوير للإسلام في نظر خوصمه والمتربصين به، بصورة تخالف حقيقته، وتعين على هدمه، إن دين الله واحد لا خلاف على أصوله، وإن الفتن التي تفرق بين المسلم وأخيه. لا تتصل بركن من أركان هذا الدين، ولا يبعثها في كل حال حرصٌ عليه، إنما هى النزوات والشهوات، نزوات الجهل وشهوات التعصب، فحرص على أن يصلح هذه الأحوال المضطربة، وصممم على أن ينقذ الأمة من ويلات الخلاف والشقاق، وعلى أن يبث في أهل العلم روحاً من التسامح والهدوء في البحث. والتخلص من شوائب التعصب، وأن يرتغع بهم عن الحزازت واصطناع المكائد والفتن.
وإذ أردنا أن نعرف إلى أى مدى كان الخلاف قد استبد بالعلماء، وشغلهم وعطل مواهبهم، وأفسد العلائق بينهم؛ فلنقرأ تاريخ العلماء والفقهاء والمتكلمين في النصف الأول من القرن الخامس، وفى ذلك يقول ابن السبكى في ترجمته للقشيري: "و من جملة أحواله ما خص به من المحنة في الدين والاعتقاد وظهور التعصب في عشر سنة أربعين إلى خمس وخمسين واربعمائة، وميل بعض الولاة