/ صفحه 295/
يعمل المسيء ـ أراد ذلك أم لم يرد ـ على مجاراة المحسن في العمد الإرادى أحيانا، وفى العقل الباطن أحيانا أخرى.
ومن هنا يتضح أول الشيئين اللازمين لتطبيق مبدأ المقارنة في كتابة التاريخ وهو أن يذكر المؤرخ دائماً أن ما يتناوله من أحداث وأناسي، لا يختلف كل الاختلاف عما يعصره من أحداث وأناسي. ولست أريد بذلك أن أدخل إلى موضوع الإعادة، اللا إعادة في التاريخ مرة أخرى. بل أريد التدليل على أن المادة الإنسانية التي يصنع منها التاريخ واحدة في جميع الأمم.
أما الشيء الثانى مما يجب على المؤرخ أن يجعله نصب عينيه احتراما لمبداً المقارنة، فهو أن تاريخ أمة من الأمم ـ أو دولة من الدول ـ ليس إلا سجلا لحياة فرع من فروع شجرة كبيرة ذات جذور متلاصقة، تستمد كلها الحياة من معين واحد وأرض واحدة. وأسوق تشبيها آخر بالقول بأن تاريخ بلد من البلاد ليس إلا تيارادافقا ـ أو غير دافق ـ وسط تيارات مختلفة ـ وهذا التيار يتأثر طبعاً بما حوله من التيرات أشد التأثر، برغم ما يبدو للناظر السطحى من استقلال اتجاهه، وربما كان التدليل بتاريخ الدولة الإسلامية كما تعلمناه أوائل هذا القرن العشرين الميلادي، خير تقريب لما أقول، إذ كان التاريخ الاسلامى يُدرس كأن العرب وبلادهم كانوا بمعزل عن العالم الخارجى تمام العزلة حين ظهر الإسلام، وكأن الرسول لم يعرف من ذلك العالم الخارجى سوى مكة والمدينة وما وراءهما من تهامة والطائف وأطراف فلسطين، حتّى إذ خرج المسلمون من بلادهم خيل للمتعلم كأنهم اندفعوا نحو بلاد سادت فيها الظلمات الروحية والماديه، وكأن أهل البلاد المفتوحة وقفوا ينظرون إلى العرب وهم يشيدون مدنية جديدة بين عشية وضحاها. أما الحقيقة فهى غير ذلك، إذ المعروف أن العرب لم يكونوا إلا عنصرا واحدا من العناصر التي حاطت الدولة الرومانية، وتمنت أن تقتطع من بقاعها الباسمة موطنا أمينا، ومن حضارتها الغنية نموذجا للحياة الرغيدة، ثم أثرت في كل من تلك العناصر مؤثرات متباينة في الزمنية والقوة والغرض والطاقة الدافعة