/ صفحه 294/
ومن هؤلاء من ذاقت الدنيا ألوان الشقاء وأصناف الحرب بسببه، فكيف والحال هذه يقول أحد ـ أو يريد أن يقول ـ بأن التاريخ يعيد نفسه؟
ثم إذا تركنا حوادث التاريخ وعصوره، وتكلمنا بلغة الآثار الباقية، وجندنا البرهان القاطع على أن التاريخ لا يعيد نفسه. ذلك أن الآثار على قلتها أصدق أنباء من الكتب على كثرتها، لأن الأثار لا تعرض للبلى والتحوير والتغيير في سرعة، على حين أن الكتب فضلا عن تعرضها لذلك كله لا تكون دائما بنجوة من ميل مؤلفيها عن الحق. وإذا سلمنا بأن الآثار على أنواعها مرآة صدق صامتة ناطقة بأحوال الفرد والجماْة والقبيلة والعشيرة والأمة، واستعرضنا الآثار بمصر من فرعونية ويونانية وبطلمية ورومانية وبيزنطية وقبطية وعربية وفاطمية وأيوبية ومملوكية وعثمانية، فهل يؤدى بنا ذلك الاستعراض الصامت الناطق إلى القول بتكرار عصور التاريخ بعضها تلو بعض، أو الاعتقاد بأن التاريخ يعيد نفسه؟
وأما مبدأ المقارنة في التاريخ فأساسه أن التاريخ ليس قصة خارقة مسلية، أو درامة عنيفة محزنة، أو قطعة رفيعة من الأدب الممتليء بالمحسنات اللفظية والبديعية والمعانى مما يشبع خيال الأديب، بل هو سجل صادق ما أمكن لنتائج الحوادث الإنسانية منذ دوّن الإنسان مايدل عليه. والمؤرخ لا يستطيع أن يأخذ بمبداً المقارنة في الكتابة إلا إذا أخذ أولا بشيئين اثنين، على نحو ما يأخذ السارى في الليل بهدى عقله ونور القمر معا، وفى آن واحد، وبذا يصل إلى مرتبة الكتابة التاريخية المقارنة، في يسر وبسهولة وقرب من الحق. وأول هذين الشيئين أن يدرك المؤرخ أن ذلك السجل الصادق الذي هو التاريخ لايمكن أن يكون مخالفاً في مراميه وأهدافه لما تسجله الأيام مما ندرج فيه نحن في العصر الحاضر من سبل العيش والحياة الفكرية. فالحسنات والسيئات ومختلف الصفات التي نعيش فيها هى التي عاش في أشباهها السابقون، وسوف يعيش في أشباها اللاحقون، وربما يكون وجود المحسن والمسيء في مزيج واحد ـ أو بعبارة أدق في مجتمع واحد ـ هو سر الحياة والعمل، إذ يعمل المحسن في مثل ذلك المجتمع على إصلاح المسيء، كما