/ صفحه 266/
المجتمع الذي يعيش في ظلاله. العمران، ولعلاقة هذا العمران ببقاء الدين الذي يدعو إليه، وبمناعة المجتمع الذي يعيش في ظلاله.
بحسب الداعى إلى دين أن يحل طلب أهله لما يقّوم جماعتهم من تكاليف الحياة، ولكن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يكتف بذلك، بل جعل لطلب هذه المقوّمات ثواباً يساوى ثواب المجاهدين في سبيل الله. فأول مافعله في هذا الموضوع أنه جعل طلب الحلال فريضة يأثم تاركها ويحاسب عليها فقال: "طلب الحلال فريضة على كل مسلم". ثم شرعى يدعو إليه بعبارات مؤثرة تشعر بجلالة خطره، فقال: من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله، ومن طلب الدنيا حلالا في عفاف كان في درجة الشهداء"؛ وزاد في الدعوة إليه حتى فضله على نوافل العبادات فقلا: "العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال". بل قال: "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة".
ورفع من قدر أما كن المبادلات، ومحال المبايعات فقال: " الأسواق موائد الله تعالى، فمن أتاها أصاب منها" فأى ورع يمنع من غشيان الأسواق بعد هذا؟
وقال مشيدا بالكد في طلب العيش: "من أمسى وانيا من طلب الحلال بات مغفورا له، وأصبح والله عنه راض" ومن ذا الذي لا يحب أن يصبح على هذه الحال؟
يرى القاريء مما سردناه عليه من هذه الأحاديث سمو إدراك محمد (صلى الله عليه وسلم) لمقوّمات الحياة الإنسانية، وشمول نظره لعوامل ارتقاء الجماعات البشرية، وإيصالهم إلى المثل العليا من الكمالات المادية والمعنوية، وقد فهم المسلمون الأولون مراميه البعيدة (صلى الله عليه وسلم) فجدوا للحصول على الحسنيين معا، فبلغوا من التدين إلى ما لا يروى عن سوهم من الاخلاص والوراع، ومن المدنية المادية إلى مالم تدانهم فيه أعرق الأمم في الحضارة، حتى شهد متمدنو هذا العصر من الغربيين أن المدنية المادية التي وصلوا إليها لا تقل عن المدينة العصرية رونقا ولألاء، فقال الأستاذ (دريبر) في مؤلفه (المنازعة بين العلم والدين):
"لم تكن أوروبا العصرية بأعلى ذوقا، ولا أرق مدنية، ولا ألطلف رونقا