/ صفحه 265/
إن الله لا يحب المفسدين، فلمتأهل في أحاديثه الكريمة يدرك لأول وهلة" مما يراه فيها من المبالغة في التحضيض على العمل الدنيوي، أنه يرمى إلى غاية سامية كل السمو، وهو أن يحمى المسلمين من الضعف المادى الذي يصيب الغالين في الدين، فيكون ذلك سبباً لتدهور الأمة، وصدَّا لها عن بلوغ الغايات القصية من الوسائل المادية الضرورية لمتابعة ترقيها إلى امثل العليا للحياتين معا.
لقد انتقل المسلمون طفرة، بفضل حكمه القرآن الكريم، وسمو قيادة محمد (صلى الله عليه وسلم) للنفوس، من جاهلية جهلاء، إلى إيمان راسخ رسوخ الأطواد، وحب للتعبد ونيل الدرجات الروحية، فاقوا فيما الذين توارثوا الدين والكتب السماوية أجيلا كثيرة، حتى آثروا أن يشاركوا النبى في تهجده بالليل، ومنهم من حرموا على أنفسهم الطيبات، ومن شرعوا يصومون الدهر، فكان (صلى الله عليه وسلم) يعدِّل من غلوائهم في ضروب العبادات، ويلطف من تشددهم فيها، لما كان يخشاه من أن إيثارهم للعبادة إلى هذا القدر، يحد من نشاطهم للقيام بالأعباء المادية، والمهام العلمية والصناعية، التي لا محيص عنها لأمة اختيرت لأن تبلغ أرقى ما يمكن الوصول إليه من الناحيتين الدينية والدنيوية، فلذلك أكثر من حضهم على طلب الدنيا، واعتبر مثوبة العمل لها مساوية لمثوبة العمل للآخرة. وبدأ وبدأ فوضع أصلا لهذه الوجهة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) اليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه"، وهى كلمة لم تؤثر عن أى مصلح دين في الأرض، لأنه أدرك بسموتعقله، وعلو تفكيره، أن الإنسان في هذا العالم المادى لا يستطيع أن يبلغ درجة الكمال الروحى والعقلى إلا إذا أمن غوائل الحاجة، وهى لا تؤمن إلا بالعمل الجثماني، وأنه كلما ازداد أمنا من هذه الناحية ازداد نشاطه الروحي، وارداكه العقلي؛ فأشاد لهم بثواب العمل للدنيا، إشادته بثواب العمل للآخرة، دفعاً لهم إلى طلب مقوّمات الحياه الاجتماعية، ومن يتأمل في أحاديثه المروية عنه في هذا الباب، يجد ما يدهش له، ويتضح له بُعد مدى ادراكه لعوامل الارتقاء في الشعوب، وسمو فهمه لمقومات العمران، ولعلاقة هذا العمران ببقاء الدين الذي يدعو إليه، وبمناعة