/ صفحه 199/
أمر وضع هذا المقياس إلى العقل البشري، لأن الشواهد من يوم الخلقة تنطق في صراحة بأن العقل البشرى لم تتفق أفراده على مقررات ثابتة صحيحة في قياس التفاضل بين الناس، لعدم الاتفاق على كل ما هو حسن أو قبيح؛ فتولى القرآن وضع مقياس التكريم والتفضيل، وو الحكم بالصلاحية بين البشر عند الله وعند الناس بقوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فأكرم الناس وأفضلهم: أتقاهم للشرك الدينى والاجتماعي، وأبعدهم عن الشر بمختلف ألوانه، وبعبارة أوضح: أفضل الناس أصحهم عقيدة في الله، وأنفعهم للناس.
ومما تقدم نرى القرآن الكريم يشفع تقريره لوحدانية الخالق، بتقرير حرية خلق الله من بنى آدم أجمعين، ويربط بينهم بأخوة حقيقية نسبية تجعلهم أرحاما يتراحمون بمقتضى أخوتهم، ويقرر المساواة التامة بينهم، فلا فروق ولا تمايز بين الأفراد أو القبائل أو الشعوب بمقتضى الخلقة والأصل، بل بمدى ما يقدمه الفرد أو الشعب من خير ونفع للمجتمع الإنساني، حسبما يمليه عليه مدى إيمانه بالخالق وعقيدته فيه، وعلى هذا فلاظلم ولا عدوان، ولكن عدل ورحمة وسلام.
يقرر الإسلام ـ هكذا ـ الحرية والأخوة والمساواة بين بنى الإنسان، تقريرا مستند إلى أهم مباديء الإسلام إطلاقا، وهو توحيد الخالق (1) منذ أربعة عشر قرنا، في وقت كان فيه التحضر والتمدن يقومان على أساس من الظلم والعدوان بين الشعوب، وعلى شريعة الغاب بين أفراد الشعب الواحد، فنقل الإسلام بمقرراته هذه، البشرية من ذل العبودية لغير الله إلى الحرية المطلقة في ضلال سيادة الله؛ ومن طغيان الفرد واستبداده إلى المساواة المطلقة، ومن الخصام إلى الأخوة والسلام، فردّ إلى الانسانية كرامتها، وأخرج الناس حقيقة من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
ولما كانت دعوة القرآن إلى الكرامة الإنسانية مهدِرة لمعظم الأوضاع البشرية
ـــــــــــ
(1) لم نشأ الاعتماد على غير النصوص القرآنية ـ مع كثرة نصوص السنة في هذا المعنى ـ لنظهر مدى أهمية هذه المباديء في كتاب الله.