/ صفحه 189/
ورائهم كنوزا لا يزيدها الإنفاق إلا نماء وزكاة، ثم جاء من بعدهم تلاميذهم والمقتفون آثارهم فولّدوا من علمهم علما، ومن فقهمم فقها، وفرعوا على أصولهم وأصلوا من فروعهم، وخرّجوا أقوالهم، وجلَوْا غوامض مسائلهم، وقربوا إلى الأذهان الكلية ما ندّ، ونفوا ما شذّ، وفصّلوا وبوّبوا، وهذّبوا ورتبوا حتى جعلوا علم الشريعة على طرف الثمام، فماذا فعل المتأخرون؟ إن قصارى المبرز فيهم أن يرجع إلى آراء القدماء، فيدركها ويحسن أخذها، والاقتباس منها، فإن تيسر له ذلك واسعفه به طبع موات، وعقل نافذ، وبصر ثاقب، أطل على الناس من سماء النبوغ، وتقاضاهم ألوان الاعتراف والتمجيد، ولم يرض منهم إلا مكانة الصدارة والزعامة كأنه "الشافعي" صاحب الام، أو مالك صاحب "المدونة" و"الموطأ" أو ابن حنب صاحب "المسند" أو أبو حنيفة صاحب الرأي، أو الليث، أو سفيان، بل كأنه على باب العلم، أو عمر المحدث أو أبوبكر الصديق، أو عثمان أمين القرآن.
وقد علمنا أن أهل الحديث ورجاله المخلصين كانوا يفنون زهرة أعمارهم في التحقيق والتدقيق، وكانوا يرحلون في طلبه، فيضربون في الأرض كما يضرب المجاهدون في سبيل الله تاركين إبناءهم وأهليهم ومساكنهم، وأنهم تتبعوا كل ما يتصل بالرواية والرواة والمروي، فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها وضبطوها، ودرسوا سائر نواحيها، وليس بين المتأخرين إلا من هو كلُّ عليهم في هذا الشأن يقبل ما قبلوا، ويثبت ما أثبتوا، وينفى ما نفوا.
وقل مثل ذلك في علوم البلاغة والأدب والنحو والتفسير وكل ما درسه المتقدمون وألفوافيه، وتتبعوا دقائقه خدمة للقرآن الكريم والحديث النبوي، وحفظا للغة العرب، فإننا نرى المتأخرين يجرون في أوديتهم ويسلكون سبيلهم، ويرجعون إليهم، فلا يكادون يغيرون من أحكامهم حكما، ولا يزيدون عليهم إلا ما عسى أن يكون من تمثيل لقاعدة أو بيان لمجمل أو تحقيق لشاهد أو نحو ذلك.
فعلام إذن يتنكرون للقديم وهم بنوره يستضيئون وعلى هديه يسيرون،