/ صفحه 188/
وهى ترمى بذلك كله إلى توهين العزائم، وإفساد الأخلاق، وحل العري، وتقطيع الوشائج بين المسلمين، وقطع الصلة بينهم وبين ما ضيهم ليكونوا صيدا سهلا وطعاما شهيا، وتكون بلادهم الشاسعة، وأراضيهم الواسعة منابت غلات، ومناجم آلات، يتمتع بها المستعمرون ويسعدون، ويملكون ويحكمون. فاذا متلأ جوّ بلادنا بالدعاوة الضارة، التي تذاع وتنشر عن كتبنا وقديمنا فلا مناص للعقول أن تلتفت إلى غير هذه الكتب، وتلتمس غير هذه القديم، فلا تجد ذلك إلا في تلك الثقافات الطارئة التي بينا بعض مضارها وأخطارها، واَكبر ما تمنى به الأمم بعد غزوها بالحرب والفتح، أن تغزى بالأفكار والثقافات، بل إن غزوها بالأفكار والثقافات لأشد عليها خطرا وأفعل فيها أثرا، فإن جرح الحسام قد يندمل، وشرخ العظام قد ينجبر، أما أدواء القلوب والروس، فلا شفاء منها إلا بالموت، وقديما قيل "جرح اللسان أنكى من جرح السنان".
ليس كاتب هذا من المتعصبين المنقطعين عن مجاراة الحركات الحديثة، وليس من المسرفين الذين يقولون: "ما ترك الاول للآخر شيئا" وليس بالداعية إلى جمود العلم والفقه والأدب والتاريخ وغير ذلك على ماتركها لنا السلف، لا نحيد عنها يمنة ولا يسرة، ولكنه امرؤ كابد من هذا وذاك، فلا بس القديم والحديث فتى ناشئا يصبح بهما صباحه، ويمسى عليهما مساؤه، ثم لابسهما كهلا فتيا مكتمل الفهم والرشاد، خراجّا ولاّجا طُلعَة ذواقّا، فأنه بهما لجدّ خبير.
لكننى أومن إيمانا يشاركنى فيه كل منصف بأنه لولا القدماء لضاع العلم، والضطرب الرأي، وضلت الافهام، وهذه قضية لا أزداد فيها نظرا إلا ازددت بها ثقة، وازدادت عندى وضوحا، والتاريخ على ذلك من شاهدين، فقد علمنا أن عصر الائمة المجتهدين في الفقه والشريعة كان ينطوى على فقهاء يعدون بالمئات، كلهم يعكف على الأدلة، ويستنبط الأحكام وينظر في المصالح، ويعلل ويخرْج،و يدعو إلى الحق ويرشد إلى الصواب، حتى ملئوا طباق الأرض علما، وتركوا من