/ صفحه 159/
نعدل أسلوبنا الفكري من أساسه، علينا أن ننظر إلى الحياة نظرة جديدة تخضع فيها المادة للروح، وتسمو فيها المعنويات على الجثمانيات، وكل حل ينقصه هذا العنصر، إنما هو حل سطحي واه لا بقاء له.
5 ـ العلاقات السياسية :
رأينا في الأسطر القليلة السابقة كيف نظم الإسلام حالة الحرب. فلننظر الآن كيف نظم علائق السلم، وأول ما يعنينا من ذلك طريقة معاملته لمبعوثي أعدائه، وحاملي رسائلهم، وممثليهم السياسيين، وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها أنها سديدة مستقيمة، فالإسلام فوق ما يكفله لهم من صيانة وأمن على الأرواح(1) يمنحهم نوعاً من الحصانة الاجتماعية التي تخولهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا، ولا يدع سبيلاً إلى حجزهم في بلادنا بحجة أنهم من قوم عدو لنا.
يلي ذلك طريقته في الاستماع لهؤلاء المفاوضين وحسن استعداده للتفاهم والتعاقد معهم، فالقرآن يحض الرسول على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلاً إليه "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" (8 : 61).
أما شرائط الصلح وطرائقه، فقد رأينا بصدد هدنة الحديبية، كيف أن روح المسالمة التي تعمر قلب رسول الإسلام، قد جعلته يضحي بكثير من التفاصيل المتعلقة بألقابه الأدبية، وبالسمعة الحربية لجيشه، وببعض الحقوق الفردية لاتباعه على أنه ليس معنى ذلك أنه يوجب قبول كل اقتراح من جانب الأعداء، مهما كان شاذاً، أو ضاراً بحقوق الأمة والأجيال المقبلة، فقد رأينا هذا الرسول الرحيم نفسه، حين عرض عليه مسيلمة الكذاب تقسيم "الأرض" بينه وبينه يرفض ذلك العرض رفاً صارماً، ويجيبه بتلك الجملة الحكيمة التي يقتبسها من القرآن : "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده" (21 : 105).
_________
(1) أنظر قول الرسول لمبعوثي مسيلمة الكذاب : "والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما".