/ صفحه 14/
ولم تظهر هذه الطائفة إلا في المدينة حيث تكون المسلمون، وقويت شوكتهم، وأخافوا غيرهم، فضعفت طائفة عن المجاهرة بالكفر والعناد فكتموه في نفوسهم.
وفي هؤلاء تقول السورة "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون".
هؤلاء هم المنافقون الذين أعد الله لهم ما شاء من عذاب مقيم، وجعلهم في الدرك الأسفل من النار. يزعمون أنهم مصدر الخير والصلاح، وهم مبعث الشر والفساد: "و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
اتخذوا لأنفسهم وجهين يقابلون هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء" "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون".
وما ابتلى المسلمون في أي زمان ومكان بشر من هذه الطائفة: تدبر المكائد، وتروج الأكاذيب، وتزعزع المؤمنين، وتفسد روابط المحبين، وتنفث سموم الشر والفتن، وقد اهتم القرآن بالحديث عنهم، والتحذير منهم حتى لا نكاد نجد سورة من سور القرآن المدينة تخلو من ذكر هم، ولفت الأنظار إلى أوصافهم، وقد نزلت فيهم سورة كاملة سميت باسمهم .
ساقت سورة البقرة في هذا المقام ثلاث عشرة آية بينت بها حقيقتهم وخواصهم وخطتهم في الحياة، وضربت لحيرتهم واضطرابهم بين ما يظهرون من إيمان، ويبطنون من كفر، مثلين واضحين في تصوير حالهم، وسوء عاقبتهم: "مثلهم كمثل الذين استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون". أو كمثل قوم نزل بهم صيب "مطر" من السماء "فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين، يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير".