/ صفحه 123/
والأعمال الصالحة، وقد قال الله للأولين: "و ليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من طهورها، ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون". وقال للآخرين " ليس البر أن تولو وجوهكم قبل المشرق والمغرب " . أى ان الاتجاه في العبادة إلى الجهات ليس إلا رمزآ للاتجاه القلى إلى الله تعالى، وليست ركنا أساسيا في العبادة فيتبع فيه الأمر.
وهذه الآية هى أجمع الآيات في تحديد معنى البر من النواحى الواقعية، فهى ترشد إلى أن البر لا يرتبط بشيء من المظاهر والصور والأشكال، وإنما يرتبط بالحقائق ولب الأمور وروحى التكاليف، وترشد إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير: بر في العقيدة، وبر في العمل، وبر في الخلق.
فالبر في العقيدة بينته الآية في قوله تعالى: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين" أمور خمسة: الإيمان بالله في ربوبيته، في عبادته، في وحدانيته، في اعتقاد أنه هو وحده النافع الضار، الرافع الخافض، المعز المذل، القابض الباسط، القاهر فوق عباده، الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تتجه القلوب إلا إليه، هذا الإيمان المطلق بالإله وعظمة الإله هو الذي يرفع النفوس الى مكانة التكريم والسمو التي أرادها الله للإنسان، هو الذي يصون المرء عن الذلة والاستكانة لشيء ما، هو الذي يعصمه عن التورط والزلل، هو الذي يجعل من نفسه عليه رقيبا لا يغيب ولا يخادع ولا يجهل، هو نبراس الهداية في جميع نواحى الحياة.
والإيمان باليوم الآخر، يوم الجزاء على الأعمال، يوم المحاسبة على ما في القلوب والضمائر، يوم النعيم الدائم أو الشقاء الدائم؛ هو معنى يغرس في النفوس محبة الخير والحرص على إسداء المعروف، وكراهة الشر، وتجنب الأذى والإفساد في الأرض، وقد عنى القرآن عناية عظمى بتقرير الإيمان باليوم الآخر، وناقش فيه وأقام عليه الحجج والبراهين، وضرب له الأمثال وأقسم عليه، وسفه أحلام المنكرين له، المتعجبين من وقوعه بعد تمزق الجسم كل ممزق، وصيرورته عظاما ورفاتا "و قالوا أئذا كنا عظاما