/ صفحه 105/
وإن اجتمع فيه الأمر ان، المصلحة والمفسدة، وترجح كل واحد من الطرفين، من وجه دون وجه، أعتبرنا أرجح الوجهين تحصيلا أو دفعا فإن استويا في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة.
فهذا ضابط مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" بتوصل به إلى أرجح الأحكام غالبا، وينتفي به اخلاف بكثرة الطرق والاقوال.
مع أن في اختلفا الفقهاء فائدة عرضت خارجة عن المقصود، وهي معرفة الحقائق التي تتعلق بالأحكام وأعراضها ونظائرها، والفروق بينها، وهي شبية بفائدة الحساب من جزالة الرأي.
وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق للشرع، خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمّا وكيفا، وزماناً ومكاناً إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعاً خادما له، إلا إذا متثل مارسم له سيده، وفعل ما يعلم أنه يرضيه، فكذلك ههنا، ولهذا لمّآ تعبدت الفلاسفة بعقولهم، ورفضوا الشرائع، أسخطوا الله عزوجل وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة وعلى تمصيلها المعلول.
ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم، فتؤخذ من أدلته، لأنانقول: قد قررنا أن المصلحة من أدلة الشرع، وهي أواها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المصالح. ثم هذا إنما يقال في العبادات التي تخففي مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا وأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها، علمنا أنا أُحلنافي تحصليها على رعايتها، كما أن النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام، علمنا أنا أحلنا بتمامها على القياس، وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بجامع بينهما، والله عزوجل أعلم بالصواب.