/ صفحه 186/
فكان النحو أسبق هذه العلوم في التدوين، وكان أول الكتب فيه صحيفة أبي الاسود الدؤلي المتوفى سنة 69 هـ وهو أحد التابعين بالبصرة، لما كثرت الدواعي بانتشار الفتح الإسلامي، واختلطت الأعاجم بالعرب، فسرى اللحن في اللغة، وبدأت الألسن تلتوي بالعجمة، وخشي المسلمون أن تمتد سراية اللحن إلى القرآن والحديث في القراءة، لما امتازت به اللغة العربية من اختلاف حركات الاعراب، ثم كان من الطبيعي أن يبدأ امر التدوين لسائر العلوم الأدبية الاخرى، لما بينها من الارتباط، ولأن الحاجة إلى الجميع كان قد أحسّها القوم، فقد دون في عهد معاوية بن أبي سفيان بأمره كتاب في التاريخ لعبيد بن شرية الجرهمي النسابة الاخباري، وكان قد استقدمه معاوية مع من استقدمه من علماء القوم، ليقصوا عليه أخبار الماضين من العجم والعرب، وكذلك دونت كتب تاريخية أخرى ذكرها ابن النديم عن هذا العصر لم يوقف لجميعها على أثر، وقد وضع في الأنساب والمثالب كتابان، وضعهما زياد ابن أبيه لابنه عبيد الله، أحدهما في نسبته إلى ابي سفيان، والثاني في مثالب القبائل العربية، ليستظهر به ولده على العرب، وكانوا قد أنفوا لنسبته إلى أبي سفيان ونافروه فانتصروا عليه، فعمد بعد إلى وضع هذين الكتابين ليكونا سلاحاً في يد ولده عليهم، وفي هذا العصر أيضاً ألّف في السيرة عروة بن الزبير المتوفى حوالي سنة 93 هـ وهكذا ابتدأ التدوين يأخذ مكانه في العصر الأموي، بجانب الحفظ ويزاحمه إلا أنه ـ نظراً لبدء نشأته إذ ذاك ـ لم يكن في مثل هذه الكتب التي ذكرناها تدوينا بالمعنى العلمي التأليفي وإنما كان جمعاً لما يصيبه العلماء من الشعر والخبر وغيرهما مجرداً عن التبويب والتهذيب.
هذا وقد كان من الطبيعي أيضاً ـ تبعاً لمقتضيات ذاك العصر ـ تدوين العلوم الأخرى، وكان أسبقها من العلوم الشرعية الحديث الشريف الذي كانت روايته بعد مثلاً يحتذى في رواية الأدب، إسناداً وتدويناً وحفظاً للسند، إلا أنهم لم يبلغوا بها في شئ من ذلك مبلغ الدقة في رواية الحديث، لما للحديث من شأن خاص