/ صفحه 125/
وراء ما يقع عليه الحس من طعام وشراب ولذات وشهوات وغلبة وبطش وجمع للأموال، وتكاثر وتفاخر، والروحية البحته التي تزهد في الحياة وتعرض عنها إعراضاً تاما، فلا زواج ولا سعي ولا عمل، ولكن تبتل مطلق وإهمال للأسباب ! يقرر الإسلام في ذلك الوسط ايضاً فيقول (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله). (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
وهي في طريقة التشريع ووضع قوانين الحياة وسط: لم تدع الناس يشرعون لأنفسهم في كل شئ، ولم تقيدهم بتشريع من عندها في كل شئ، بل نصت وفوضت: نصت فيما لا تستقل العقول بإدراكه، كالعبادات زمانا ومكانا، وكيفتية ونحو ذلك، وفيما لا تختلف المصلحة فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، كالمواريث وأصول المعاملات من بيع وشراء وتحريم لأكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك، وفوضت فيما يدرك العقل الخير فيه، وتختلف المصلحة في بتغير الازمنة والأمكنة والاشخاص، ومن هنا وجد الاجتهاد، وكان من أركان الشريعة الإسلامية حفظ الله به للعقل الانساني كرامته.
وهي في تحديد علاقة الفرد بالجماعة وسط أيضا: لم تترك الفرد طليقاً يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، ولم تدعه كالوحش في الفلاة يجري ويمرح ويعبث، ويفترس ما يقدر عليه، ويتحكم فيه الأقوى منه، ولم تلغ شخصه، وتنس استقلاله وتضيعه في غمار الجماعة لا يعمل الا لها، ولا يفكر الا فيها، ولا يعرف لنفسه وجوداً غير وجودها، كأنه جزء من آلة يتحرك بحركتها ويسكن يسكونها، ولكنها اعتبرته ذا شخصية مستقلة، وفي الوقت نفسه اعتبرته لبنة في بناء المجتمع، فأثبتت له، بالاعتبار الاول، حق الملكية لماله ودمه والهيمنة على نفسه وولده، ومنحته في هذه الدائرة حق التصرف بما يراه خيراً له وسبيلا لسعادته في حياته، وأوجبت عليه بالاعتبار الثاني، حقا في نفسه بالخروج للغزو والجهاد في سبيل رد العدوان