ـ(76)ـ
ومهما حصل من اختلاف بين الفقهاء في مثل هذه الأمور فهو اختلاف طبيعي تقتضيه طبيعة الوسائل المعرفية المتوفرة للفقيه والتي على أساسها يقرر رأيه الفقهي في أيّة مسألة حياتية تواجهه أو تواجه أحداً من المكلفين. ولا يلام الفقيه في أيّ حكم يتوصل إليه مادام قد استفرغ جهده وبدل سعيه في البحث عن الحق والأخذ بما قام عليه الدليل والبرهان.
نعم ما يلزم الفقيه الانتباه إليه في عملية الاستنباط هو عدم إمكانية فصل استحصال الرأي في المسائل الشرعية عن محاولة التعرف على حيثيات الواقع وملابساته، إذ أن تعرف الفقيه على هذه الحيثيات وتلك الملابسات يساهم أولاً في تأسيس عملية الاجتهاد على اطلاع مفصل على كل ما من شأنه أن يكون دخيلاً في استحصال الرأي الشرعي في المسألة مورد البحث، ويساهم ثانياً في ابتعاد الفقيه عن فرض حكم على المكلف يعجز عن امتثاله فيلجأ إلى التحايل على الشرع والتلاعب بأحكامه.
صحيح أن الوظيفة الرئيسية للفقيه هي بيان الحكم الشرعي للمكلف وليس من وظيفته مراقبة امتثال المكلف للحكم الشرعي وعدمه، ولكن ليس من المعقول أن يتجرد الفقيه لإصدار الأحكام الشرعية بحق المكلفين من دون مراعاة لظروفهم الخاصة ومن دون تفهم للإمكانيات المتاحة في الواقع لامتثال الحكم الشرعي من قبل المكلف.
ومما له دلالته الخاصة في اعتراف الإسلام بالبعد المتغير في حياة الإنسان ومراعاته لهذا الأمر هو مبدأ الاجتهاد الذي حث الإسلام على ممارسته حتى أن فقهاء المسلمين اعتبروه واجباً كفائياً لابد أن يتفرغ للقيام به بعض المسلمين شأنه شأن أيّة وظيفة حياتية لا يستغني الناس عمّن يقوم بها. وهذا الشأن الذي أعطي لمهمة الاجتهاد من قبل الإسلام ليس لغرض جعل الشرعية حيّة فعالة في حياة