ـ(59)ـ
بيانه للأحكام ـ أمرا ونهيا وإخبار يتضمن معناهما ـ هي بطبيعتها معان عقلية مجردة، ـ عامة ومطلقة ـ لا يمكن أن تتحقق بذاتها في الوجود الخارجي إلاّ في ضمن جزئياتها، أو من خلال ما يندرج في كل منها من فروع ووقائع عملية يتحقق فيها (مناط المفهوم الكلي) الذي تندرج فيه. وهذا ـ بلا ريب ـ منهج علمي تشريعي يضبط عملية الاجتهاد، ثم هو أمس بمعنى: (التشريع) الذي يتسم بطابع العموم والإطلاق من ناحية، وأقوى من الاستجابة لسنة التطور والتغير في الحياة الإنسانية من (التشريع الفروعي) من ناحية أخرى؛ لاستعصاء هذا الأخير على العمومية والإطلاق والعجز بالتالي عن استيعاب المستجدات إلاّ عن طريق (القياس) وهذا وان اتسع عقلا مجاله، لانسحاب الحكم القياسي على غير المنصوص عليه منطقيا لاتحاد العلة، يغدو عمومه عقليا؛ لعموم علته ظنا راجحا، في حين أن (الكليات) وإن كانت مفاهيم كلية غير أنها مصوغة بنص عام يستغرق ما لا يحصى كثرة من الفروع التي تندرج في كل منها مباشرة، لا عن طريق (العلة) أي بطريق غير مباشر، فكان هذا الأخير أتم اتساقا، وأقوى فاعلية، لطبيعة التشريع، وأداء وظائفه من (القياس الجزئي الخاص) بلا مراء!! وأدنى إلى تحقيق قصد الشارع.
على أن مما يغني عن (القياس الأصولي) الفروعي في أصله، والظني من حيث حكمه يغني عنه (العموم المعنوي) الثابت قطعا بالاستقرار التام للجزئيات ـ على حد تعبير الامام الشاطبي ـ بحيث يتصفح المجتهد الجزيئات الواردة في السنة الثابتة، وفي القرآن الكريم ـ وهي جزئيات قليلة نسبيا ـ كما ذكرناه فيستخلص من كل طائفة من تلك الجزئيات (معنى عاما) يسلكها جميعا وإن اختلفت موضوعاتها، وبذلك لا يكتفي المجتهد بالصيغ العامة الواردة في الكتاب والسنة، بل يمتد اجتهاده إلى اقتناص (المعاني العامة) أيضاً ارتقاء من تفصيلات الفروع الجزئية المختلفة موضوعاتها إلى أفق رحب من (المعاني الكلية) وهذا (اجتهاد تأصيلي عام) ـ كما ترى ـ يكسب التشريع مرونة عجيبة في الاستجابة لمتغيرات الزمن، وتطوير الحياة بالناس، ويستغنى به عن (القياس) في كثير من المجالات ثم هو ـ آخر الأمر ـ تكييف