ـ(185)ـ
بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده). ثم قال: (لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيدٍ بمذهبٍ ولا إنكارٍ على أحدٍ من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة، مقلداً لـه فيما قال كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من ذوي الألباب).
وقد عهدنا العلماء الراسخين يتبعون الدليل من أي أفقٍ ظهر، ولا يعبأون بمخالفة مذاهبهم، فقد يخالف الحنفي الحنفي، وقد يخالف الشافعي الشافعي، وقد يخالف الإمامي الإمامي، وقد ينتصر العالم لرأي في غير مذهبه ؛ لأنه يراه الصواب، ومن أمثلة هذا: مخالفة ابن تبمية وابن القيم لجميع مذاهب أهل السنة في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وأخذهم بمذهب الإمامية لا يوقعون به إلاّ طلقة واحدة ؛ لأن الدليل معهم. وقد كان لبعض العلماء المعاصرين يوم قرر قانون الأحوال الشخصية في مصر الأخذ بمذهب الإمامية في ذلك ضجة كبرى ؛ لأن المذاهب الأربعة توقع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً، وقد استقر أمر الناس عليها حتى اعتبرها العامة والخاصة مسألة في صف المسائل الأساسية، فكان هذا القانون سبباً في قيام اعتراضاتٍ كثيرةٍ ومناقشاتٍ متعددةٍ، ثم استقر أمره وصار العمل عليه، وهجر رأي المذاهب الأربعة وما يوافقها في ذلك، ولم يعد أحد يهتم بهذا أو يراه حدثاً في الإسلام.
الأمر الثاني: أن كلا من الاتفاق والاختلاف أمر لازم لا مناص منه، فلا يمكننا أن نتصور المسلمين أو أية أمة من الأمم متفقين في كل شيء، ولا أن نتصور هؤلاء وأولئك مختلفين في كل شيء، ولكن الذي هو واقع فعلاً ولا مناص من أن يقع هو: أن الأمة الواحدة لها مواضع كثيرة تتفق عليها، وهي التي ربطت بينها وجعلتها أمة واحدة، ولها مع ذلك مواضع كثيرة تختلف فيها لاختلاف العقول والمصالح والأدلة بينها، وهي بحكم اتفاقها فيما اتفقت فيه أمة واحدة، وبحكم اختلافها فيما اختلفت فيه مذاهب متعددة، والمذهبية الخاصة لا تخرج أهلها عن كونهم من الأمة، ولا تعطيهم في نفس الوقت قرباً أو نسبةً في القرب من الدين ليست لأصحاب مذهبٍ آخر، ومن