ـ(186)ـ
ثم لا يستطيع منصف أن يقول: إن مذهبي حق كله وصواب كله، ومذهب غيري باطل كله وخطأ كله، ولكن يقول: إن هذا هو ما رأيته بحسب فهمي واجتهادي وما علمته، فأنا أرجحه ولا أقطع به، ويحتمل أن يكون ما رآه غيري هو الحق والصواب، ولست مكلفاً إلاّ بما وصلت إليه، وليس مخالفي مكلفاً إلاّ بما وصل هو أيضاً إليه.
وقد اشتهرت في هذا المعنى عبارة جيدة تصور اختلاف المختلفين المنصفين لأنفسهم وغيرهم، إذ تقول بلسان كل مجتهد: ( مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب ).
وما من مجتهد إلاّ وقد روي عنه ما يدل على سماحته العلمية، وأنه كان يأبى على الناس أن يقلدوه في كل ما قال، ويلغوا ما سواه.
فأبو حنيفة رضي الله عنه ـ كان يقول: ( لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي) وكان إذا أفتى يقول: ( هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعنى: نفسه ـ وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب).
والشافعي ـ رضي الله عنه ـ كان يقول: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي) وقال يوماً للمزني: ( يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين).
وكان الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ يقول: ( ليس لأحدٍ مع الله ورسوله كلام ) وقال يوماً لرجلٍ: ( لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة ).
وهذه النظرة المنصفة تغيب أحياناً عن بعض أهل العلم، أو تغمرها العصبية، أو المصلحة الشخصية، فيشتد الخلاف، وينقلب لجاجاً وخصومة، وربما أدى إلى قطيعة.
وقد عرف التاريخ العلمي الإسلامي كثيراً من صور الخلاف والتعصب، ليس المجال لبيانها أو تحليل أسبابها ؛ كما عرف صوراً رائعة من صور الاختلاف المهذب بين الأئمة الأعلام والعلماء الراسخين، أفادت العلم ووسعت دائرة الفكر، وجعلت معين الفقه الإسلامي فياضاً.
وإن خير ما يقدمه خاصة أهل العلم إلى أمتهم في هذا العصر: أن يتناولوا