ـ(175)ـ
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ثم بنوا من هذا النوع مقالة ثانية أصلوها على أن العبد مخير مفوض إليه أمره يفعل ما يشاء، ثم عمدت كل طائفة من هاتين إلى ما خالف مذهبها من الآيات والأحاديث، فأولته ما أمكنها التأويل، وردت منه ما استطاعت رده.
وطائفة ثالثة توسطت، فجمعت بين مشيئة العبد ومشيئة الرب، وعلى معنى أن للعبد مشيئة، ولكنها لا تتم إلاّ بمشيئة ربه، وذلك أخذاً من مثل قولـه تعالى: [وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله] (1)[ولولا أن ثبتناك لقد كدت تزكن إليهم شيئا قليلاً] (2)
ومن مثل ما وري عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه من أن رجلاً سأله: هل العباد مجبرون؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبده على معصية ثم يعذبه عليها، فقال لـه السائل: فهل أمرهم مفوض إليهم؟ فقال جعفر: الله أعز من أن يجوز في ملكه ما لا يريد، فقال السائل: فكيف الأمر إذن؟ فقال جعفر: أمر بين الأمرين، لا جبر ولا تفويض ـ وكنحو ما روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه لما انصرف من صفين قام إليه شيخ فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت مسيرنا إلى صفين أبقضاء وقدر؟ فقال علي رضي الله عنه: والله ما علونا جبلا ولا هبطنا وادياً ولا خطونا خطوة إلاّ بقضاء وقدر، فقال الشيخ: فعند الله احتسبت عنائي، إذن ما لي من أجر! فقال لـه علي: مه يا شيخ، فإن هذا قول أولياء الشيطان وخصماء الرحمن، قدرية هذه الأمة، إن الله تعالى أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرها فضحك الشيخ ونهض مسروراً ثم قال:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم القيامة من ذي العرش رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه إحسانا
___________________
1 ـ التكوير: 29.
2 ـ الإسراء: 74.