وهنا يأتي الحوار ليعطي للاختلاف بعداً إنسانياً يضعه في شكله الطبيعي، ولا يسمح له بالتحول إلى طاقة تدميرية، بل أنّ الحوار يخفض من مستوى سلبيات الاختلاف ويرفع من مستوى إيجابياته ليكون الاختلاف في هذا الإطار رحمةً وخيراً، ودافعاً للإصلاح والمراجعة المستمرة. وهذا البعد يمنح الحوار مضموناً مصيرياً وموقعاً استراتيجياً في استمرار الحياة بطعمها المستقر، وإبقاء الجنس البشري بمستوى ما حباه الله من عقل وقدرة على التفكير والاختيار. إنّ الحوار أداة للكشف عن الحقائق والأشياء الخفيّة، ومن خلاله تتم الإجابة على كثير من علامات الاستفهام والإشكاليات العالقة في الذهن، أو تزيد من القناعات الذاتية، كما يمكن من خلاله كشف الباطل ودحضه وكشف مؤثرات ودلائل بطلانه. وبشكل مجمل فإنّ الحوار ينضج الأفكار والقرارات; ففي الجانب الفكري والثقافي مثلا ـ ينمي الحوار الأفكار ويعمقها، ويشذِّبها مما يعلق بها من انحراف أو جمود أو شوائب، ويحرك العقل باتجاه الإبداع والتجديد والتحرر، في الحدود التي تفرضها مرجعية الاختلاف. وفي الجانب السياسي الاجتماعي، يلعب الحوار الدور نفسه في تنضيج القرار الاجتماعي والسياسي وإشعار الآخرين بالمسؤولية وأهمية الموقع الذي يحتلونه، بل أنّ بعض الأنماط تعد في دائرة المسلمين لوناً من ألوان الشورى. وبالتالي فالحوار في الإسلام يعبر عن قيمة حضارية; لأنّه أسلوب الأنبياء في التبليغ والدعوة. فقد انتشر الإسلام بالحوار والوعظ والمحاجة والقول الحكيم، والذي أوصله إلى اقاصي الدنيا، ولا سيما افريقيا وشرق آسيا وامريكا، هو الحوار. هذه البلدان التي يقطنها اليوم مئات الملايين من الناس، دخلت الإسلام بالحوار، فالإسلام هو دين الحجة ودحض الباطل بأسلوب الحكمة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن)[29] ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ الحوار ليس الاستراتيجية الوحيدة في نشر الدين والدعوة والتبليغ، رغم أنّه استراتيجية أساسية، ورغم أنّه موقف يتخذه المسلم أساساً في الحركة، إلاّ أنّ الاستراتيجية تتغيّر وفق موقف الطرف الآخر