وتأكيداً من الفطرة نفسها على توفير الجو الآمن، نجد العناية الإلهية قد غرست فيها بديهيات الحكمة العملية، والميول نحو العدل، والنفور من الظلم والاعتداء، بل ومنحتها القدرة على تعيين الكثير من مصاديق العدل والظلم، مما يمهد لها السبيل للاتصال بالخالق العظيم وتقديم معاني الولاء له، وحينئذ تنفتح لها آفاق الوحي، وتكتشف بذلك الأطروحة السماوية الرحيمة التي تعطيها المخطط الكامل للمسيرة، وتضمن لها كل ما يوصلها إلى أهدافها. فالأمن ـ إذن ـ حاجة إنسانية دائمة لاتغيّرها الظروف، وليست ظاهرة عرضية حتى يقال; بأنّها معلولة لوضح اجتماعي معين إذا ما تبدّل تبدّلت هذه الظاهرة معه. ومن هنا فمن الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يتكفّل حماية الأمن الفردي والاجتماعي على مدى مسيرة الإنسان الطويلة. ولايمكننا أن نتصور حدوداً لمسألة حماية السلام والأمن إلاّ في إطار مسألة التكامل الإنساني ذاتها. وذلك أمر طبيعي، بعد أن ندرك أنّ الفطرة هي ـ إجمالا ـ معيار الحقوق الإنسانية كلها، وأنّها أيضاً تحدد إنسانية الإنسان وأهدافه، وتفرض حماية الأمن الإنساني لتحقيق الهدف الكبير. وحينئذ لن يقبل الأمن تحديداً إلاّ إذا خرج عن وظيفته الحياتية، وعاد عنصراً ضد الأمن نفسه، فلا معنى ـ إذن ـ لضمانه. وإلاّ فكيف نتصوّر الفطرة التي أعلنت الحاجة إلى الأمن وهي تسمح للفرد بالقضاء على أمن نفسه هو، أو أمن الآخرين، وبالتالي على أمن المسيرة الإنسانية كلها دون أن تحدده بما يردعه عن فعلته، حتى لو أدى ذلك إلى تهديد أمنه؟ وإذا شئنا تتبع المحاولات الإنسانية الحضارية الجادة لتوفير جوٍّ آمن للبشرية جمعاء، فإنّ علينا أن نتتبع ـ أوّلا ـ محاولات الأديان، باعتبارها أقدم الظواهر في حياة الإنسان وأكثرها دعوة للكمال كهدف إنساني، وأشدها سعياً لتحقيقه، ثم نستعرض ـ ثانياً ـ محاولات الفلاسفة المتنوعة لبناء القوة العادلة العاقلة التي تضمن للبشرية هذه الحاجة، ونصل ـ ثالثاً ـ إلى المحاولات الشخصية والجماعية لضم العالم تحت حكومة واحدة، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بشتّى الحجج والدوافع والشعارات، وفي طليعتها شعار تأمين العدل لكل البشرية، والدفاع عن حقوق المحرومين وتوفير السلام العالمي.