استخدام الجنّ لمعرفة الأمور المغيّبة، فكان إذا ناب أحدهم أمرٌ يريد معرفة دخيلته أو مستقبله منه، ذهب إلى الكاهن أو العرّيف ليخبره بما يهمّه منه. وكان لكلّ كاهن صاحبٌ من الجنّ ـ فيما زعموا ـ يحضر إليه فيخبره بما يريد! والكهانة والعرافة، لفظان لمفهوم واحد. وفرّق بعضهم بينهما بأنّ الكهانة علاج ما سيحدث من أمر خطير، والعرافة علاج حادث راهن. وعلى كلّ حال فالمراد بهما التنبّؤ واستطلاع الغيب، وكانت القبائل المتوحّشة تعتقد في الكُهّان القدرة على كلّ شيء، ويحيطون بهم هالة من القداسة الدينيّة، باعتبارهم المراجع في مهامّ الأمور سواء المحسوس منها أم المغيّبات. فكانوا يستشيرونهم في حوائجهم، ويتقاضون إليهم في خصوماتهم، ويستطبّونهم في علاج أمراضهم، ويستفشونهم فيما أشكل عليهم من مخارج الأمور، كما كانوا يستفسرون منهم عن رؤاهم، ويستنبئونهم عن المستقبل وما سيؤول إليه أمرهم في منطلق الزمان. وبالجملة، فالكهّان عندهم هم أهل العلم والفلسفة، والطبّ والقضاء والدين، شأن جميع الطبقات من الأمم القديمة، في كلّ أرجاء العالم القديم. كانوا يعتقدون في الكهنة العلم بكلّ شيء، وأنّ ذلك يأتيهم بواسطة الأرواح، إن خيّرة أو شرّيرة، وكان عبدة الأصنام ـ وهي عادة متفشّية عند القبائل المتوحّشة ـ يعتقدون حلول الأرواح في الأصنام وأنّها تُبيح أسرار الطبيعة للكهّان والسَّدَنة، فتقول: إنّ الأصنام تدخلها الجنّ وتخاطب الكهّان، وأنّ الكاهن يأتيه الجنّي بخبر السماء، وربّما عبّروا عنه بالهاتف (عند العرب)، فكلّ ما يصنعه الكاهن إنّما مصدره الغيب. فإذا استطبّه مريض من ألم أو صداع عالجه بالرقى، وإذا استشاره في معضلة خطّ له في الرمل أو نفث في العقد، وإذا تحاكمه متخاصمان رمى لهما بالقداح، وإذا استطلعه شخص أخذ قمقماً جعله بين يديه ونفث فيه، ونحو ذلك من الحركات الوهميّة، وإذا استفسره من رؤيا تَمْتَمَ وتظاهر باستطلاع الغيب.