كما ويذهب شليرماخر إلى أنّ مهمّة المفسّر هو الوصول إلى فكرة المؤلّف، والتي اختلج في باله وأدلى به عبر النصّ إلى القارئين، ليكون دور الناقد والمفسّر دور الكاشف النابه، والذي يسعى بكلّ جهده وراء العثور على حقيقة المراد من النصّ، سعياً على أصول وقواعد تمهّد له سبيل الكشف. ومن أهمّ هذه القواعد هي معرفة الفضاء الذي عاشه المؤلّف، والذي تجاوبت معه شخصيّته الثقافيّة والفكريّة، حتّى يمكن النفاذ من خلال هذه الفرجة إلى ذهنيّة المؤلّف والأفكار التي كانت تخالج باله. فعليه أن يجتاز الفجوة التي بينه وبين المؤلّف، ويجعل نفسه في مثل الظروف والشرائط التي اكتنفت المؤلّف في ظرفه الخاصّ، ومن خلال ذلك المنظر فليشاهد العلاقة الرابطة بين المؤلّف والنصّ بوضوح. الأمر الذي اصطلح عليه «علم الأصول» بقرائن الأحوال، وهي شواهد زمنيّة عاصرت صدور النصّ في ظرفه الخاصّ، واصطلح عليه المفسّرون بمعرفة أسباب النزول، ولولاها لما أمكن فهم كثير من آي القرآن المرتبطة بمناسبات ومؤاتيات كانت قيد التاريخ. وتوضيحاً لهذا الجانب ـ وعلى ضوء قواعد علم الأُصول ـ نقول: إنّ للألفاظ الموضوعة دلالة ذاتيّة يُعيّنها الوضع اللغوي أو العرف الخاصّ، فإذا قرع سمعك لفظ، وأنت تعرف وضعه اللغوي أو ما تعارف عليه أهل العرف، فإنّ المعنى الموضوع له يتبادر إلى ذهنك لا محالة، ومع غضّ النظر عمّا يختلج ببال لافظه. ومثل هذه الدلالة الذاتيّة للألفاظ ـ بما أنّها دلالة لغويّة بحتة ـ لاتفي علاجاً لمعرفة مراد المتكلّم، مراده الجدّي، ما لم ترفقها أصول[417] تنفي احتمال الخلاف، وذلك حيث لاتكون هناك قرائن حاليّة أو مقاميّة توجب صرف الكلام عن ظاهره