ولكنّه في هذه المحاولة لتجنّب «سوء الفهم» يطالب المفسّر ـ مهما كانت الهوّة التاريخيّة التي تفصل بينه وبين النصّ ـ أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخيّ الراهن; ليفهم النصّ فهماً موضوعيّاً تاريخيّاً. إنّه يطالب المفسّر ـ أوّلا ـ أن يساوي نفسه بالمؤلّف، وأن يحلّ مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتي والموضوعي لتجربة المؤلّف من خلال النصّ. ورغم استحالة هذه المساواة من الوجهة المعرفيّة، فإنّ شليرماخر يعتبرها الأساس الأصلي للفهم الصحيح. ومن ثمّ نغمة رومانسيّة تغلف كلاسيكيّة شليرماخر، تتجلّى في اعتباره النصّ تعبيراً عن نفس المؤلّف، وفي مطالبته المفسّر أن يكون ذا طاقة تنبّؤيّة، إلى جانب معرفته باللغة، حتّى يمكنه اكتشاف الجوانب المتعدّدة للنصّ. وبهذه الطاقة التنبّؤيّة يسعى الإنسان لفهم الكاتب إلى درجة أن يحوّل نفسه تماماً إليه، أي يكون هو الكاتب! هذا هو المنهج الذي رسمه شليرماخر لإمكان فهم النصّ، على ما أراده المؤلّف إرادة جدّ، وراء دلالة النصّ الظاهريّة. وبذلك كان شليرماخر ممهّداً لمن جاء بعده، خاصة «ويلثي» و«جادامر». إذ بدأ ديلثي ممّا انتهى إليه شليرماخر من البحث عن تفسير وفهم صحيحين في مجال العلوم الإنسانية، بينما بدأ جادامر من معضلة سوء الفهم المبدئي التي حاول شليرماخر ـ في تأويليّته ـ أن يتجنّبها. وبهذا يُعدّ شليرماخر ـ بحقّ ـ أباً للهرمنيوطيقة الحديثة، وللمفكّرين الذين جاءوا بعده، سواء بدأوا من موضع الاتّفاق أم من موضع الاختلاف معه[416]. ويتلخّص الهرمنيوطيقا في أنّ لفهم النصّ عن طريق التأويل والاجتهاد، في سبيل العثور على مغزاه والبلوغ إلى قصواه، ضوابط وأصولا ينبغي مراعاتها، ليكون الفهم صحيحاً ومقبولا إلى حدّ ما.