ثالثاً: أنّ الاختلاف الاجتهادي إنّما سمح له انطلاقاً من واقع الفكر الإنساني القاصر من جهة، وتحقيقاً لعملية الإثراء العلمي من جهة أُخرى. وهذا يعني أنّه يجب أن يسير باتّجاه مصلحة الأمة وتراثها التشريعي والقانوني والتنظيمي، لا باتّجاه تمزيقها وإضاعة شخصيّتها المتميّزة، ولايتمّ ضمان السير الطبيعي إلاّ إذا نُفيت كلّ العناصر التحريفية للمسيرة، والتي تعمل على تحويل وجهتها الطبيعية إلى اتّجاه تخريبي ممزَّق يبدأ قليلاً وينتهي إلى تمزّق فضيع، وهذه العناصر كثيرة: منها: الأهواء السياسية التي تسخّر بعض الفقهاء لصالح الحكّام، ليحقّقوا بعض الأهداف الضيّقة. ومنها: جهل طرف من الأطراف بمباني الطرف الآخر وحدود فتاواهم. ومنها: عمليات الخروج عن مقتضيات الخلاف الفكري إلى مساحات عملية لا علاقة لها، نتيجة عملية تجريد للأمر عن ظروفه، وتحويله إلى عامل نزاع عقائدي وغير ذلك. وعليه فالتقريب عملية تفاهم وتقارب، ونفي لكلّ العناصر التحريفية، ووضع للمسيرة على الخطّ الطبيعي المثري لا غير. التقريب وتعدّد المذاهب لم يكن هناك شديد حاجة للاجتهاد في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد أن كانت الأحكام والمفاهيم تؤخذ مباشرةً منه، وربّما اجتهد بعض الصحابة فأقرّهم الرسول الأكرم على ذلك[32]. وكان الاختلاف بسيطاً، وعندما اتّسعت الرقعة الإسلامية نزلت آية النفر التي قرّرت واقعاً، وشرّعت أساساً للاجتهاد، وحجّية خبرالواحد، فقال تعالى:(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[33].