ولعلّ من سبلها عملية التقريب بين الأفكار والاتّجاهات والمذاهب المختلفة، إذ بدون ذلك تزداد الهوّة وتتّسع الشقّة، حيث لتجد الأمة بعد ذلك نفسها ممزّقة متهاوية متنازعة، فقدت تمسّكها واستواءها، وراحت في مهبّ الريح العاتية. وليس التقريب عملية قسرية ولا مصطنعة، ولا حركة سياسية يُراد بها ستر جانب من الضعف والنقص لكي تتمّ عملية تمويه على الطرف الآخر، بل هي عملية أصيلة، تقتضيها مجموعة أمور واقعية، من أهمّها: أولاً: أنّ الخلاف الفكري والاستنباطي أمر متوقّع تماماً وخصوصاً عندما يُراد استنباط كامل للحياة من نصوص وتقريرات ونماذج عليا، الأمر الذي يقع فيه اختلاف في الاستنتاج بشكل طبيعي، ويشتدّ ذلك عندما تفصلنا عن عصر النصّ عصور وقرون، ونبتلي بمضافات كثيرة، كضياع جملة من الأحاديث، ولزوم تمحيص الأسانيد، وتغيير أساليب التعبير، وقرائن التفهيم، والملابسات التي تكتنف الكلام، ودخول شيء كثير من الدسّ والافتراء في مجاميع الروايات، الأمر الذي يتطلّب عنايةً بالغةً في التمحيص والتدقيق. هذا إضافة إلى أنّ تطوّر الحياة يفرض عدداً كثيراً من الوقائع والحوادث الجديدة لم يرد فيها نصّ خاصّ، فلابدّ من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامة[30]. ثانياً: أنّ فتح باب الاجتهاد أمر طبيعي وضروري لتحقيق المرونة التشريعية، والمسايرة الإسلامية لتطوّرات الحياة، الأمر الذي يؤدّي إلى اختلافات كثيرة في الاجتهاد وهي اختلافت قَبِلها الإسلام بمقتضى واقعيّته. أمّا النصوص الناهية عن مثل ذلك، فلا تنصبّ على الاختلاف الفكري، وإنّما على النزاع العملي (وَلاَتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[31] وإذا سرت إلى الجانب الفكري فإنّما تركّز على الجانب المعصوم منه، والذي لايتطرّق إليه الخطأ، الأمر الذي لا يبقى مجالاً للاختلاف والاجتهاد الفقهي، وهو ما عبّر عنه بحبل الله، فالقرآن المصون حبل الله، والسنّة الشريفة بنصوصها المقطوعة سنداً ودلالةً حبل الله، ولا مجال للنزاع في ذلك.