هذه الحقيقة في عمق فطرتهم وآمنوا بها، والتزموا تجاهها بالطاعة في كلّ أمر ونهي... ولا يخلو إنسان عن كلّ ذلك، حتّى ولو انحرف عن الله وألحد به تعالى. ولذلك فليس لهم أن يقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) لأنّهم يتذكّرون جيداً هذا الإيمان والإقرار والتعهّد والميثاق في فترة من فترات حياتهم، عند تفتّح الفطرة، وقبل أن تنطمس. ويجري هذا التعهّد بحكم العقل الضروري، فلا تخلو منه فطرة إنسان، لأنّه من متطلبّات الفطرة الإنسانية عامّة، ما لم يشذّ الإنسان عن الفطرة، وتفسد فطرته. ولا يمكن أن يتنصّل أحد من متطلّبات هذا الإيمان والإقرار والتعهّد والميثاق، لأنّه يتمّ بمقتضى الحكم العقلي الضروري (النظري والعملي)[354]. ولا يستطيع العقل أن يحكم بغير ذلك، فإنّ العقل حيث يؤمن بوجود العلاقة التكوينية بين الإنسان وبين الله، وهي علاقة العبودية، والربوبية، والملك، والخلق، والتكوين، والإبداع، والرزق، والحفظ، والستر... لا يملك إلاّ الحكم بالطاعة لله تعالى على الإنسان ; أداءً لحقّ الربوبية والعبودية. وكما كان الحكم النظري الأول (الإقرار بالربوبية والعبودية) ضرورياً وواجباً، كذلك الحكم العملي الثاني بالتعهّد (الطاعة) لابدّ أن يكون ضرورياً وواجباً. وهذا الميثاق الذي يجري داخل فطرة كلّ إنسان هو أساس الطاعة، والمبنى العلمي لشرعية الطاعة في الإسلام. وعندما يتقرّر وجوب طاعة الله على الإنسان بصورة علمية وعقلية وفطريّة، عندئذ يتيسّر لنا تعريف كلّ طاعة مشروعة، وتمييز الطاعة المشروعة عن غيرها.