والآن نحاكم هذه الآراء: أمّا الرأي الأول فلا سبيل إلى الإيمان والتمسّك به قطعاً، ولا يمكن أن يذهب فقيه من فقهاء المسلمين إلى هذا الرأي، مهما كان مذهبه واتّجاهه الفقهي والأُصولي. فإنّ الإنسان في الإسلام عبد مملوك لله تعالى، لا يملك من أمر نفسه شيئاً، سواءً قلنا بالإباحة أو الحظر. والديمقراطية في جوهرها مذهب مادّي، قائم على عدم الإيمان بالله وإن كان الغرب الذي يحتضن هذه النظرية مؤمناً بالله تعالى، إلاّ أنّ الغربيّين لم يدرسوا بالتأكيد علاقة الديمقراطية بالإيمان بالله سلباً أو إيجاباً. فليس للإنسان حقّ ذاتي في تقرير مصيره، ما لم يتجرّد صاحبه عن الإيمان بعبودية الإنسان لله، وربوبية الله تعالى للإنسان، وولايته المطلقة على الإنسان. ولسنا نحبّ أن نتوقّف عند هذه النقطة أكثر من هذا الحدّ. أمّا الخيار الثاني فهو في دائرة الإيمان بالله تعالى وصلاحيات العبد، ومن الممكن أن يفوّض الله تعالى عباده في اختيار من يقع عليه اختيارهم للولاية والحكم. ولكنّني استعرضت أدلّة التفويض استعراضاً موسّعاً في دراسة خاصّة بعنوان: «المدخل إلى دراسة نصّ الغدير» فلم أجد دليلاً واحداً يمكن الاستناد إليه بصورة قطعية على التفويض، مهما كان المذهب الفقهي الذي يذهب إليه فقهاء المسلمين: الحظر أو الإباحة. فإنّ مبدأ «الإباحة» لا يصحّ أن يكون دليلاً على التفويض، وذلك أنّ الله تعالى قد صرّح في كتابه أنّ الحكم والأمر والولاية والدين بكلّ أبعاده له تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)[327].