فرمقتها الزهراء رمقة مواساة، وهمست: «اسكبي لي غسلاً، يا أُمّه». وجيء لها بالماء، فلمّا اغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل أيام العافية، هتفت بصاحبتها مرّةً ثانيةً: «إيتيني بثيابي الجدد». فأتتها بها ... حتّى إذا ارتدتها، وسوّتها على جسدها النحيل لا ينكشف منه شيء، قالت: «اجعلي فراشي وسط البيت». عندئذ روِّعت سلمى أشدّ ترويع، في قلبها تحجّر الألم، في عينيها ماتت النظرات، كلّ ما حولها ذاب في الذهول. فلغير هذه الخاتمة الفاجعة أعدّت المرأة نفسها، وجلست مجلسها ذاك عند قدمي سيدة النساء. كانت تأمل البرء للحبيبة التي يعتصرها الذبول، تحلم لها بالشفاء كلّما سرح بها الفكر إبّان يقظة النهار، أو في أيّما غفوة غابرة تلمّ بها إن سجا الليل، ولوّنت الظلمة الأُفق بالسواد. فلولا أن قد شلّتها الرهبة صوتاً وحركةً، لملأت المكان بالنواح والعويل. لكن بسمةً خابية الشعاع رفت على شفتي فاطمة الذابلتين، أعدتها بابتسام حزين. عندئذ همست، من بين دموعها، وبصوت متحشرج مضطرب النبرات والرنين: بأبي أنت وأُمي يا حبيبة رسول الله! ثم ائتمرت بما أُمرت ... فما أن فعلت حتّى نهضت الغالية إلى الفراش تضطجع عليه مستقبلة القبلة متهيّئة للقاء الله. وكانت البشاشة على وجهها، والفرحة في ناظريها وهي تقول: «ياأُمّه! إنّي مقبوضة الساعة، وقد اغتسلت، فلا يكشفنّ أحد لي كتفاً». ثم تشهّدت ... ثم أطبقت جفنيها ... ثم استسلمت، راضية مطمئنة، للقضاء المحتوم. وما لها لا تستبشر، وإنّها لعلى موعد في ظلّ الله بساحة الرضوان، مع أحبّ إنسان؟ * * * وحان موعد الرحيل. أدبرت زهرة النبوّة عن الدنيا، لتغدو في علّيين. حدث هذا ذات مساء وكان الشهر: رمضان، واليوم: الثالث، والليلة: الثلاثاء. منذ بضع وعشرين من السنين، شهدتها الدنيا وهي تطلع في حديقة الوجود البشري زهرةً قدسيةً من عبير طهور، ولألاء نور، ليس كمثلها شذىً ونضرةً في الرياحين والزهور. ثم تشهدها الآن وماؤها يجفّ، وعودها ينقصف، وما زال ضؤوها النديّ يسطع، وعطرها الفوّاح يتضوّع[1623] عبر الآفاق، وملء الأجواء. فما أضيق فسحة الأجل! ما أقصر العمر الذي كتب لها أن تحياه! قضت وهي في رونق الشباب، في عزّة الصبا المنفتح على الحياة. ولولا أنّ الشمس والقمر والنجوم وأمثالها ممّا تضمّ الأكوان تجري في أفلاكها بحسبان ... لولا أنّها جميعاً من آيات الله التي لا تتأثّر حركاتها، ولا تتغيّر مساراتها