حديث الخندق قد جمع المؤمنين في رباط، طرفه أمنهم على نسائهم وذراريهم المحتشدين في المعاقل والآطام، وطرفه الآخر ثقتهم الوطيدة بأنّ معركتهم الوشيكة الوقوع إن هي إلاَّ خطوة واسعة على الطريق إلى دينونة العالم كلّه للإسلام. وذاك تعويض عن رضا البشر برضا الله، وتبديل الذي هو خير وأرفع شأناً بالذي هو أدنى وأهون قيمةً. وبينا نرى المشركين في تلك الأُولى يكذّبون ما ذكره النبي عن رحلته العلوية، ويجتذبون إلى التكذيب طائفةً غير قليلة ممّن كان إيمانهم على حرف، إذ نرى المنافقين في الثانية يسخرون، فلا تقوى سخريّتهم على تحريك شعرة في أصحاب الإيمان. يخبركم محمد أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تُفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق فلا يأمن أحدكم على نفسه أن يخرج إلى الغائط! فلا يكون جواب المسلمين عندئذ إلاَّ قولهم: الحمد لله، موعود صدق. ذلك لأنّ أهل الإيمان تزايلت عنهم الشكوك، وشغلوا بهذا الوعد الحقّ الذي وعدهم الله، وصوّره أدقّ تصوير نطقه الربّاني في تنزيله الكريم: (إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاَْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)[1282]. فكذّبتهم الأيام ... وحقّ الوعد الإلهي. والذي لا مرية فيه أنّ حديث الخندق ـ وهو حقّ من حقّ، شدّ به الله أزر الذين آمنوا في وقت محنة ـ قد كان أيضاً وسيلة «دعائية» خليقة[1283] بأن تتلقّى الأعداء