لكأنّما جمع الله لنبيّه الدنيا كلّها، ووضعها في كفّه، ثم قال: هاك، أو كأنّما قد أُسري بعينيّ الرسول لتريا أطراف العالم جميعها وإن اختلفت المواقع، وتفرّقت الأوضاع، وتشتّت المسافات، بل كأنّما قد عُرج به أيضاً، نوعاً آخر من العروج. فلئن كان قد عُرج به ـ من قبل ـ علوّاً في مدارج السماوات إلى عرش الله، فلقد عُرج به هذه المرة علوّاً في مدارج الزمن إلى علم الله! انتقل صعداً من «الآن» إلى ما بعد «الآن»، إلى سنين غير هذه السنين تحتوي الفتح المبين. فأمّا إذ رأى المسلمون وهج الضوء، ثم طالعهم الرسول بما رأى من نصر مقبل لم يزل بعد جنيناً في بطن الغيب، فتلك آية أُريد بها تثبيت عزائم أتباعه، ورفع روحهم المعنوي في وقت كانوا يعانون فيه البأساء والضرّاء، وتوشك أن تتخطّفهم المصارع، يأتيهم بها عدوّهم من أمامهم ومن خلفهم، عن أيمانهم وعن شمائلهم، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فلا يكادون يعرفون أين النجاء. ومع ذلك فلم ينكصوا على الأعقاب، لم يرتدّوا خطوةً واحدةً إلى الوراء، ظلّوا صابرين مصابرين حتّى أتى نصر الله. فبينا نرى يوم الإسراء الأكبر كثرةً من المسلمين قد غلب عليهم الريب في النقلة بين القبلتين، وفي رحلة السماء، فصبأوا عن الدين الحقّ، إذ نرى يوم الخندق المسلمين أجمعين أشدّ صبراً على البلاء، وأوثق تصديقاً برؤى الرسول، حتّى لقد كبّروا تكبير الفتح، وكأنّما قد امتلكوا فعلاً بلاد اليمن فارس والروم. وذاك وقوف في وجه فتنة الشكّ والارتياب أعظم درجةً من الثبات لضرب السيوف وطعن الحراب. وبينا نرى أنّ المعراج كان غَسولاً لأحزان رسول الله أن فقد خديجة حاضنة الإسلام، وأبا طالب حامية، وكان تأنيساً له أيضاً بعد أن تجهّمه[1281] الناس، إذ نرى